رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوجد أمل أيضًا

بين الحين والآخر يخرج علينا من يتحدث عن تراجع دور مصر الثقافى، أو عن انهيار الذوق العام وضرورة تدخل السلطات لحماية المجتمع من غارات البذاءة فى الغناء والروايات. يكثر هذا الحديث مع ازدهار المهرجانات والأنشطة الفنية التى تتبناها بعض الدول وتنفق عليها ببذخ. بعض الأصوات التى تتحدث فى الموضوع تكون غيورة بالفعل على مكانة مصر التى وصلت إليها فى المجال الفنى والثقافى؛ بفضل أجيال أخلصت فى عملها وأنجزت ما يمكن أن نطلق عليه «رصيدنا» المعنوى الذى لا ينقص بمرور الزمن، حتى لو حاول رأس المال الغشيم إعادة إنتاجه وتعليبه من جديد، كما يحدث مع فن الغناء الذى نملك فيه رصيدًا من الصعب حصره، بسبب كثرته وتنوعه ومساهمة كل الأجيال فى تشييد صروحه. والحديث عن هذا التراجع ليس جديدًا، والمتصفح للصحف والمجلات منذ عشرينيات القرن الماضى سيجد من يحذر من هذا التراجع، رغم ازدهار كل الفنون أيامها، بالطبع يوجد تراجع لا أحد ينكر ذلك، وأنه من الضرورى مناقشة الأمور بشكل مختلف، بعيدًا عن الندب والتحسر على الماضى وجلد الذات، لأن منتجى الثقافة فى مصر لم يتوقفوا عن الإبداع، وفى كل المجالات، ولا أحد يهتم بما ينتجون فى الإعلام والصحف السيارة، لا يوجد جدل حول المدارس الفنية فى الفن التشكيلى على سبيل المثال، لا توجد مراجعات كافية للإنتاج الأدبى الغزير، وينصب الاهتمام فقط على بعض الكتاب الذين ارتبطوا بالجوائز السخية التى لا تسعى للارتقاء بالذوق فى مصر!

سألت مجلة «آخر ساعة» الأستاذ نجيب محفوظ سنة ١٩٨٨ عن رأيه فى هبوط مستوى الفن وكيف يمكن أن نعيد للفن ازدهاره؟، أجاب: «الفن الجاد كان يأتى من الطبقة الوسطى التى ضُرِبَت وترددت، وخرجت من الصورة، والذين يحتلون الصورة الآن هم الناس الذين تحسّنت أحوالهم المادية دون أن تتحسّن أحوالهم الثقافية.. هم المسيطرون على الأغنية والفيلم والمسرح، وما تراه الآن ليس مجرد هبوط، ولكنه الفن الذى يناسب هؤلاء.. وهذا الهبوط كان موجودًا من قبل، ولكن حجمه الآن زاد وطغى.. هذا هو الموضوع..!»، وهذا فى رأيى هو مربط الفرس، وزاد الأمر سوءًا بعد هذه السنوات، لأن نظام التعليم صنع طوائف فى المجتمع لا تعرف بعضها لما ينبغى، ولا يمكن أن تغنى لحنًا واحدًا معًا، الأجيال السابقة قرب التعليم النظامى بينها، ولم تعرف مصر الطبقية فى التعليم إلا فى ثمانينيات القرن الماضى، وأصبح لدينا من يفكرون بلغة أجنبية ويتحدثون بلغة أخرى، وقدموا مقترحاتهم فى الموسيقى لتلبية رغبات الذين تعلموا مثلهم، ولكنهم لم يفرضوا ذوقهم على الشارع، لأن تراث الغناء المصرى ما زال هو صانع الذائقة، أنت تصدق المطربين الشعبيين أكثر من الذين يحاولون أن يكونوا أمريكانًا أو أوروبيين، رغم تراجع مستوى الفن الشعبى هو الآخر لأسباب تحتاج إلى دراسة، لأن هذا الفن هو النهر الذى تغرف منه كل المدارس الفنية، ليس فى الموسيقى فحسب، ولكن فى الفن التشكيلى والمسرح وفنون الحكى بشكل عام، المشكلة الكبرى من وجهة نظرى، هى ترك إدارة شئون الثقافة فى أيدى موظفين حريصين على وظيفتهم أكثر من حرصهم على إشاعة المناخ الإبداعى، وأيضًا عدم التعامل مع ملف الثقافة من قبل الدولة؛ باعتباره أولوية لا تقل أهمية عن المشروعات الكبرى، لأن الثقافة قادرة على خلق الانسجام فى المجتمع ومحاصرة التطرف، ولا بد أيضًا من التعامل مع المبدعين والمثقفين برحابة صدر، والإصغاء الى آرائهم فى كل المسائل محل النقاش فى المجتمع، ولا يجب التعامل مع آرائهم المخالفة على أنها هدامة، لأن أصحابها أصحاب هدف نبيل وليسوا خصومًا حتى لو اختلفوا معك.

حكى الدكتور ثروت عكاشة، أهم وزير ثقافة فى تاريخ مصر، عن مصارحته جمال عبدالناصر حين عرض عليه الوزارة، بأنه عازف عن المناصب وصراعات السلطة، أجابه عبدالناصر قائلًا: «أصارحك بأننى لم أدعك لشغل وظيفة شرفية، بل إننى أعرف أنك ستحمل عبئًا لا يجرؤ على التصدى لحمله إلا قلة من الذين حملوا فى قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها، وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر، وعلينا أن «نعزق» تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورًا جديدة؛ لتنبت لنا أجيالًا تؤمن بحقها فى الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو العناء، وهذا هو العمل الجاد، على نحو ما ذكر «فرجيل» فى إلياذته، وإننى اليوم أدعوك أن تقبل على هذا العناء، وذلك العمل الجاد، وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركنى فى «عزق» الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، وأعترف بأن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان نفسه».