رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زمن عدوية فى لندن

تابعت بالصدفة منذ يومين على شاشة «أون تى فى» فيلمًا تسجيليًا اسمه «الكاسيت».. تحدث فيه عدد من الضيوف المرموقين الذين أثروا لسنوات فى صناعة الموسيقى فى مصر والشرق الأوسط.. وبعيدًا عن أهمية الفيلم وقيمته فنيًا.. استوقفتنى لحظة الختام التى أرادها صنّاعه.. رجال الموسيقى فى مصر، ومعظم من على صلة وثيقة بما يحدث فى صناعة التكنولوجيا فى العالم، أكدوا أن شريط التسجيل الذى اختفى من مصر وأصبح طالبوه من هواة الأنتيكات يعود الآن فى أوروبا وأمريكا بقوة.. فتحى سلامة ورفاقه يتحدثون عن عودة حقيقية لهذا النوع من السماع على يد جيل جديد تجاوز زمن الفلاشة والسى دى والأسطوانة.. هذا الجيل لم يعش زمن الكاسيت حتى يحن إليه ليصبح الأمر مجرد نوستالجيا.. لكنها موضة جديدة تعطى قبلة الحياة لهذه الصناعة لتعود من جديد. 

المهم فى الأمر.. أن ضيوف الفيلم أكدوا أن هذه الموضة سوف تُنتقل إلى مصر والعالم العربى خلال فترة وجيزة.. وهو أمر، إن حدث، سيعيد صناعة فقدت رصيدها وبريقها ويجد صناع الموسيقى ومبدعوها فرصًا أخرى لصناعة مجد جديد بعد أن دمرتهم قرصنة الإنترنت.. ودفعتهم جميعًا، بلا استثناء، إلى مغادرة الساحة والاكتفاء بالحنين إلى زمن ظنوا أنه لن يعود.. 

عودة شريط الكاسيت واردة طالما هناك مستهلك يبحث عن السلعة.. والمبدعون المهرة والفنيون فى هذه الصناعة موجودون وجاهزون لدق أنغام العودة.. لقد عاد الراديو منذ سنوات ليحتل مكانة مهمة فى حياة الناس مع انتشاره فى سيارات المواطنين واحتفاء الأجيال الجديدة به بعد أن توارى لسنوات فى ظل سيطرة التليفزيون، فلماذا لا يعود شريط التسجيل؟

صناعة الكاسيت بدأت فى مصر على يد الأجانب.. الذين اخترعوا الراديو والأسطوانة.. لكن ما عشناه من حياة وثقافة فى تلك السنوات الخمسين أكثر بكثير من كونها مجرد صناعة. 

لقد أصبحت سيرة صعود نجوم الكاسيت مطلع سبعينيات القرن الماضى عنوانًا لمرحلة صعود طبقى مختلفة فى مصر.. عند بعض مؤرخى اليسار.. وصارت عنوانًا على انتقال وهجرة الملايين إلى العاصمة أو الخليج.. ألبومات تلك الفترة.. وفى مقدمتها ألبومات أحمد عدوية التى نقلت لغة ومشاعر شارع مصرى جديد ومختلف عن شوارع وحارات الفترة الناصرية.. لم تكن وحدها.. كانت هناك موسيقى الغربة والرحيل التى عبّرت عن هجرات الصعايدة للقاهرة والإسكندرية وهجرات المصريين عمومًا إلى العراق والخليج.. كما سجلت فترة الثمانينيات ظهور جيل شاب متمرد أصبح عجوزًا الآن.. قبل ذلك كله لعب شريط الكاسيت دورًا كبيرًا فى حمل رسائل الثورة الإيرانية.. كما استغلته التيارات الدينية المتنامية وقتها فى حمل رسائل تفكيك مجتمعاتنا التى تعتمد بشكل كبير على السماع.. خطب الشيخ كشك مثال واضح لهذه الحالة.. أجيال من المبدعين والمدعين بنت قصتها ونقشت سيرتها ولا يزال البعض من جيل ذلك العصر حاضرًا وفاعلًا.. عمرو دياب نموذج واضح لذلك الجيل.

ملايين العرب والمصريين قد يجدون فى عودة تلك الشرائط غايتهم فى التعرف على أيامهم القديمة.. قد يعودون مجددًا إلى لف بكرة شريط العمر بقلم رصاص خشب.. وقد يجد الشباب من الأجيال الجديدة أنفسهم مع موضة جديدة للسماع والمرح والمتعة فى ظل زمن ضاغط ومتعب.. ضاقت فيه فرص البهجة.. لكن المؤكد أننا أمام صناعة قد تنمو سريعًا وتصبح كما كانت فى يوم ما مصدرًا للعملة الصعبة والمتعة أيضًا.