رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملح الخلود

فكرى عمر
فكرى عمر

أوقفنا على جانب الطريق، ثم فتح علبة معدنية فى حجم قبضة اليد قائلًا: 

- هذه معجزتى التى تكتمت عليها طوال حياتى، ملح الخلود يا طلابى. 

كان الجو غائمًا، تروح السيارات حولنا وتجىء فى سرعة مجنونة، ومثلها تدور ساعات المدينة. لم نضطرب لرؤيته، فشخص معلمنا القديم كان يظهر بغتة فى كثير من الأماكن والمواقف، كأنه ينبثق من هواء أو حائط. ربما يراقبنا من مكان ما، ثم يفعل ذلك؛ ليضفى هالة من السحر على نبوءاته، واختراعاته العجيبة التى صرنا نصدقها لطول خبرة بها وتجربة لها. دموع عينيه جعلتنا نتعاطف معه، ونحلم فى الآن ذاته بامتلاك اختراعه هذا ولو بالحيلة، لكن رأسه ظل ناشفًا كالحجر، لم يَلِن حتى وقد صار أكبر المعمرين فى البلدة كلها بظهر محنى، وحركة بطيئة، وذاكرة مشوشة. 

قلت له أنا وصاحبى فى ذات الوقت: 

- آه، ملح الخلود، أعطنا إياه بسرعة لِنَحكم الزمن. 

- لا يمكن. ابتكرته قديمًا، ثم ندمت، وها أنتم تروننى حزينًا على الدوام. سأتخلص منه.

- سنساعدك فى التخلص منه، ألقه فى النهر لو كنت صادقًا.

كنا نستفزه، لكنه فعلها.. جرينا معًا، التقفنا العبوة وهى تتدحرج على الضفة قبل أن تهبط إلى الماء وتذوب. وصحنا: أيها الحالمون فى كل مكان، تعالوا شاهدونا برفقة الوليمة السحرية؛ لامتلاك الأبدية. 

- لكننا وعدناه أن نساعده فى الخلاص منه ها ها ها.. أنت شيطان. 

قلت لصاحبى، فرد ممتلئًا بالسرور: 

- ملح الخلود فى يدنا. ألا تحلم به؟

- بلى، لكن لنجرب بضع سنين أولًا، أنت حبة وأنا أيضًا حبة واحدة فقط. 

حبَّتان.. ثلاث.. مائة. التهمنا ما بداخل العلبة الأسطوانية التى تملأ اليد فى ثوانٍ. 

سألت صاحبى منتشيًا بالمعجزة، وقد كان خبيرًا بمعلمنا: 

- هل نعود إذن من بداية حياتنا إذا أردنا؟ 

- لا، أنت تحلم بالمستحيل، لا عودة بالزمن أبدًا إلى الوراء، ألم تره؟!

انقلبت الأجواء فى عينى فجأة إلى ظلمة قاهرة، فهويت أرضًا بعد أن جفف الخوف ريقى، وانتشر ثلج فى عروقى، ولسعت رأسى عقارب لا تقف لحظة واحدة عن المضى المجنون فوق أرقام الساعات.