رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجليات الصراحة الصادمة فى الأحلام الغائمة

كان حلمًا طويلًا مركبًا، متداخلًا، رأيتنى فى حالات وأعمار متعددة، لم أر وجهى أو صورتى، كنت أرى ما يحيط بى، اللقطة الأبرز والأشد نصوعًا فى لقطات حلمى، هو لقائى صديقة مسافرة للخارج، وقد استقرت فى البلد الذى التقينا فيه، وقد أعجبنى ما فعلت وكأنه أمر لم يكن يخطر على بالى قبل لقائنا، فلما التقيتها أضاءت الفكرة فى عقلى، لا أستطيع أن أحدد فى أى عمر كنت، فى الجامعة؟ بعد التخرج بقليل؟ ليس معقولًا أن أكون فى نفس عمرى الآن، فالسفر والتفكير فى الإقامة فى الخارج لا يحتاج لتفكير طويل أو حيرة فى تدبيرات مالية، لكننى كنت أفكر بخلو بال من ارتباطات عاطفية أو التزامات عائلية، ثم مَن هذه الصديقة؟ لا أتذكر. 

أقرب ما تكون لاثنتين عرفتهما فى حياتى، أقرب للزميلتين.. زميلة، هذه الكلمة المحايدة الرسمية التى نعتنى بها زميل صحفى معلقًا على بوست بعد إدارتى ندوة شارك بها، ضايقتنى الكلمة، ربما، لأنها حقيقة وربما لأنها لم تكن مغلفة بأى مجاملة، وكأن هناك جفافًا وتصحرًا، يمتص أى نداوة أو مودة تغلف كلمة الصديقة، رغم أننا فعلًا لسنا صديقين، ونتلقى كثيرًا هذه الصفة من باب المجاملة التى تتمنى وتود، وإن لم يحدث، لكن وضع الحدود والخطوط الفاصلة يستلزم عزمًا ويقينًا لا يتناسبان ومتاهات أحلامى. 

صدمتنى عبارة الزميلة الأولى بعد أن ظهرت نتيجة الثانوية العامة: «لم أتوقع أن تحصلى على هذه الدرجات». 

كنت قد حصلت على مجموع ٨٨٪، وهو مجموع كبير، حيث كان تنسيق كلية الطب هذا العام من ٨٩٪، كنت مهتمة كثيرًا بالنشاطات المدرسية، المشاركة فى مسابقات مجلات الحائط، الغناء، المسرح المدرسى، فريق البينج بونج.

ضايقتنى كلمتها، حتى وإن كانت لم تتوقع، أو ظنت أننى فتاة غير مجتهدة دراسيًا، تفجير لغم الحقيقة فى وجهك يعنى أنه لا اعتبار لك لدى الشخص، وقد يضايقك هذا رغم أنه قد لا يكون له اعتبار عندك، أنتما مجرد عابرى سبيل التقيا فى صدفة زمانية ومكانية.. لذا فأنا لا أعرف عن زميلة الثانوية شيئًا الآن.. أتذكر أنها دخلت كلية البنات جامعة عين شمس، لا أعرف أكثر من ذلك، ولا أتذكر سوى أنها كانت طويلة وبيضاء وترتدى «إيشارب»، فى الوقت الذى سيطرت فيه على عقولنا كلمات المدرسات عن ضرورة ارتداء الحجاب، كى تحمى الوردة أو الزهرة من عيون المتلصصين.. حكايات كثيرة وأمثولات عن الحاجة الحلوة المغطاة بورق السوليفان، والحاجة الحلوة المكشوفة، عن البطيخة المشقوقة والبطيخة السليمة، ولم تكن لهذه الأفكار علاقة بلوحة صلاح طاهر التى طلب الكاتب عباس محمود العقاد رسمها، وهى طبق عسل وقد سقط الذباب على سطحه.

ترتبط هذه اللوحة بالوقت الذى كانت مصر تعانى فيه من انتشار الذباب، خاصة فى البيوت، فلم يكن أى بيت يترك طبقًا به طعام دون أن يغطيه خوفًا من تجمع الذباب عليه.

قد تكون الفكرة نفسها، ولكن بطريقة أخرى، ولكن يجمعها الغرض نفسه، وهو الاستحواذ على المرأة بتحجيبها وتغطيتها تدريجيًا، بدءًا من الشعر وليس انتهاء بارتداء النقاب ووضع زهرة مكان صورتها، عندما يستدعونها من خدرها للمشاركة فى الحياة السياسية، أو الرغبة فى الاستحواذ على جمال فتاة جميلة بريئة، لم تشأ أن تدفن نفسها فى غرام رجل يكبرها فى العمر والتجربة وتختلف مشاربهما فى الحياة، فلما اختارت الشابة عدم الانصياع لرغبة الكاتب الاستحواذية، وانطلقت فى الحياة وخاضت تجربتها الخاصة، لم يقبل الرجل اختيارها وأراد إهانتها بطلب رسم هذه اللوحة، التى لا تعيب طبق الحلوى المكشوف، لكنها تعكس البيئة القذرة الحاملة للأمراض والمعاونة على تكاثر الذباب. 

الزميلة الثانية التقيت بها، فى دبلومة الترجمة، كانت جادة جدًا وسريعة الحركة، وكان قد تم تعيينها معيدة بالكلية، وكانت تحرص أشد الحرص على تعريف الأساتذة المحاضرين بأنها معيدة الدفعة، وكانت تتمتع بذاكرة قوية، فتستطيع أن تجيب عن سؤال الدكتور نصًا بالصفحات، فإذا قاطعها شخص يحمر وجهها، وتصمت لفترة وهى تتمتم بكلمات تعيد ما سبق ووقفت قبله حتى تصل للنقطة التى وقفت عندها وتكمل تسميع بقية الصفحات.. بعض الأساتذة كانوا يتابعون ما تلقى من باب الطرفة، ويشكرونها من باب الود وعدم كسر الخاطر، والبعض الآخر كان ينهرها، فتقف فى حيرة واندهاش من تعليقات الأساتذة وطلبهم أن تفهم ما تقول، وأنه ليس عليها أن تحفظ الصفحات صمًّا. 

لكنها لم تتغير، وحصلت على درجتى الماجستير والدكتوراه بالصم، وأصبحت أستاذة للأدب الإنجليزى، وقد التقيت بها فى أحد المؤتمرات فتجاهلتنى أو ربما لم تتذكرنى، وأنا من ناحيتى لم أحاول العبث بذاكرتها الحديدية، لكن الحلم الذى رأيته وأحاول تجميع أحداثه يستدعى الزميلتين لمنطقة التذكر بقوة واندفاعة تصادمية، غير مبررة.. فما أستطيع أن أؤكده أن البلد الذى كنت أنوى/ أود الهجرة له كان سويسرا أو هولندا.. لا أستطيع التأكد، وكلما تفحصت الصور الغائمة فى حلمى، زاد تورطى فيه ولا يقينى منه.

.. وللحلم بقية.