رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استدعاء ماركيز فى حرب غزة

نجوم الكتابة والأفكار لا حس لهم ولا خبر فى الأحداث الدامية فى غزة، هم يحللون وينظّرون على المقاهى وفى الحانات، والجرىء منهم يضغط «لايك» أو «حزين» على حياء على البوستات الغاضبة. لقد نجح الغرب فى صنع نخبة جديدة لا تؤمن بالحق الفلسطينى حتى لو قالت غير ذلك، نخبة تسافر وتترجم أعمالها، ويعتقد أفرادها أنهم على بُعد خطوتين من نوبل أو البوكر أو المجد، تبنّى هؤلاء وجهة نظر أصحاب الجوائز السخية، والذين سيفرزون دون شك المشهد بعد وقف إطلاق النار، لمعرفة مَن تطاول على موقفهم المتخاذل، ومَن جلس على مقاعد المتفرجين كأن الأمر لا يعنيه. نوع آخر فاقد الإحساس مشغول بالهجوم على المقاومة، وينتقد إسرائيل على حياء، هذا النوع تحتفى به الصحافة العبرية والأمريكية باعتباره «شهد شاهد من أهلها». مشهد حزين لا يليق بمصر التى جرفتها الأطماع الإقليمية بالأموال والمنابر، الروائيون والشعراء والمفكرون المشهورون استمدوا شهرتهم من مناطق لا علاقة لها بالفن أو الفكر، توقفوا عن التغريد، وهم الذين تعودنا عليهم مدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان فى الأيام العادية، هؤلاء الذين عرفناهم منذ البداية يخوضون معارك نظام مبارك ضد المثقفين الوطنيين فى الماضى، وهم أنفسهم الذين صاروا مناضلين بعد يناير، ولا يوجد منهم من أدان التطبيع مع العدو، ولا أحد منهم دافع عن جيشنا الوطنى العظيم فى هذه اللحظة الصعبة من تاريخ مصر. الشعب المقاوم فى غزة أعاد القضية إلى الواجهة، بدماء أطفاله ومرضاه ونسائه، لم يقل أحد منا إنه من المناصرين لحماس، ولكننا أمام مقاومة عرت الاحتلال وجعلته فى متناول اليد، مقاومة كسرت هيبته ووضعت أنفه فى التراب، ولكى يدارى فشله يهدم البيوت ويقتل المسالمين الآمنين من أهلنا، فى كل عدوان يظهر جابرييل جارسيا ماركيز، الكولومبى الحائز على نوبل، ليس للحديث عن رواياته وحياته، ولكن بسبب موقفه النبيل من القضية الفلسطينية؛ ثار حين مُنح مناحم بيجن جائزة نوبل للسلام، وقال فى بيان وقّع عليه بمفرده «إنه يشعر بالعار لأنه حاصل على جائزة نوبل التى حصل عليها مِن بعده مجرم حرب اسمه مناحم بيجن»، وطالب فى بيانه هذا بمنح السفاح شارون جائزة نوبل فى القتل.

وقال، أيضًا، إن «إسرائيل» غير شرعيَّة، وإن حكاية الملايين الستة من اليهود ضحايا هتلر انضمت إلى ترسانة الخرافات اليهودية، تمهيدًا لإعادة ارتكابها مِن جديد تحت غطاء جائزة نوبل للسلام. وأكثر مِن ذلك تجرّأ على تشبيه الصهيونية بالنازية، مؤكدًا أنه لا أحد عانى فى الحقيقة مثل الشعب الفلسطينى، ودعا أصحاب الضمير فى العالم إلى رفع أصواتهم وألا يخشوا الابتزاز باتهامهم بمعاداة السامية وما إلى ذلك. محذرًا إياهم بأنهم، بخضوعهم لهذا الابتزاز، إنما يبيعون أرواحهم، ولأننا تذكرنا ماركيز «١٩٢٧- ٢٠١٤» فهو له تاريخ شخصى مع مصر، فزوجته مرسيدس ولدت فى بورسعيد لأب مصرى من أصول لبنانية. 

وقال: «اهتمامى بمصر قديم قدم الفراعنة، لقد أبهرنى ذلك الطوفان الهائل من الملوك والأفكار، ثمة أناس يولدون فى الماء ويموتون فى الماء، ولكن من خلال هذه الفترة الفاصلة كانوا يعيشون التجربة كاملة‏: ‏الملوك يجب ألا يموتوا، لأن الأرواح تتجمع فيهم‏،‏ وكانت الأهرامات بالنسبة لى هى الشاهد بأن علامة الاستفهام التى أطلقها الإنسان هى أكبر بكثير من هذا التاريخ الذى حاول أن يستهلكنا بتفاصيله الصغيرة».

بالطبع توجد مظاهرات فى العالم كله ترفض الهمجية الإسرائيلية التى تنتمى لأزمنة تجاوزتها البشرية منذ مئات السنين، لأن ما يحدث ليس فقط خطرًا على فلسطين المحتلة وشعبها الباسل، إن غياب العدل والكيل بمكيالين سيحول العالم إلى غابة. مشهد الدعم الأمريكى الأوروبى غير المسبوق للقتلة يعنى أن القيم التى تشدقوا بها أصبحت غير صالحة للاستعمال، حتى لو صنعوا نخبًا تفتقد إلى الأخلاق والانحياز لأشواق أهلهم لتدافع عنهم، ولكن فى مصر نجوم الكتابة الممولون من الغرب والخليج ينتظرون فى الظل، ولن تستغرب عودتهم بشكل جديد بعد نهاية المأساة وربما استثمارها لرفع الرصيد فى البنك.

حصل ماركيز على نوبل سنة ١٩٨٢ عن روايته الفاتنة «مائة عام من العزلة»، التى باعت ٥٠ مليون نسخة وتُرجمت إلى ٢٥ لغة، وقالت عنها «نيويورك تايمز» إنها أول عمل أدبى بجانب موسوعة «جينيس» يجب على البشرية كلها قراءته. درس القانون ولم يعمل فى المحاماة، واتجه إلى الصحافة منذ ١٩٤٨، التى كان يعتبرها فى مقام الرواية والسينما، وأن التحقيق الصحفى أفضل شىء فى الحياة. كان ينفى أنه شيوعى، ولكنه يسارى أقرب إلى الاشتراكية الفرنسية، لم يكن يعرف عندما كتب «مائة عام من العزلة» سنة ١٩٦٧ أنها ستفتح أبوابًا جديدة لفن الكتابة الروائية مع ترجمتها سنة ١٩٧٠، وأن «ماكندو» القرية المعزولة التى تخيلها وسط الغابات الاستوائية فى كولومبيا موجودة فى كل مكان، هى قرية تحميها ثقافتها وأساطيرها، ذهب إليها الأمريكان وحولوا الغابات إلى مزارع للموز ومصانع وسط المستنقعات، وأوصلوها إلى البحر بسكك حديدية، ليبدأ التحول الاجتماعى العنيف يدوس على كل شىء. نقاد أمريكا اللاتينية أدركوا أن صديق جيفارا وكاسترو كان يرسم صورة الواقع المنعكسة فى أذهان الناس فى بلاده، خاصة أبناء الريف أصحاب الثقافة الشعبية الذين يمارسون الحياة: العمل والحب والزواج والتدين والتناسل والثورة والفسق والتخيل والغناء والتصوف. 

فى مذكراته «عشت لأحكى» قدم درسًا لكتّاب الحكايات، اعتبر حياته العادية مادة للمعرفة، ستلتقى وأنت تقرؤها شخصيات قابلتها فى رواياته وقصصه، أخرجها من سياقها فى الواقع ومنحها خلودًا فنيًا راسخًا، وعندما تخلّى عن هذه السمة فى آخر أعماله «ذكريات عاهراتى الحزينات» توقف عن الكتابة، لأنه استلهمها عن رواية كواباتا اليابانى المدهشة «الجميلات النائمات». أعمال صاحب «الحب فى زمن الكوليرا» تحولت إلى أساطير محببة، لأنه نجح فى إعادة صياغة العلاقات الإنسانية التى يحملها الشعر، والكتابة السردية التى يحملها الشعر لا يمكن نسيانها حتى لو كان الموضوع غير شعرى، فهو فى «خريف البطريرك» و«وقائع موت معلن» و«خبر اختطاف» كان يرى أن الواقع ليس ما حدث، ولكنه كل ما يصلح للحكى. الشهرة جعلته يشعر بالحضور الناقص «لأن التصفيق داخل تلك القاعة الكبيرة التى اسمها العالم لا بد أن يتوقف لتبدأ ساعة الحقيقة». رفض أن يكون رئيسًا لكولومبيا، بعد أن اشترط مختطفو شقيق الرئيس الكولومبى الأسبق سيزار جافيريا ذلك للإفراج عنه، يومها قال: سأكون أسوأ رئيس ممكن. وقال للرئيس الأمريكى الأسبق «كلينتون» على مائدة عشاء فى البيت الأبيض إن الثلاثين مليون مدمن مخدرات فى أمريكا يظهرون أن المافيا الأمريكية أقوى بكثير من المافيا الكولومبية فسادًا. اعتزل الكتابة منذ ٢٠٠٦، وأعلن عن أنه لا يخاف الموت ولكنه يخاف من موت الرغبة فى الكتابة. فى سنواته الأخيرة كان حزينًا على مهنة الصحافة «لأن الصحفيين لم يعد باستطاعتهم الكتابة، كل ما يفعلونه هو الاستشهاد بالآخرين». ولا يمكن نسيان صوته الواثق أمام الأكاديمية السويدية التى منحته نوبل وهو يعلن: «فى مواجهة القمع والنهب والإهمال، يكون ردنا هو الحياة، فلا السيول ولا الأوبئة ولا المجاعات ولا النكبات، بل ولا حتى الحروب الدائمة التى استمرت قرنًا بعد قرن، قد تمكنت من إخماد تفوق الحياة على الموت».