رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى العميد التنويرى

لعل أبرز ما تميزت به شخصية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بين أقرانه من رواد النهضة في مصر وعيه الكبير بقيمة التنوع عبر كل مراحل الحضارات العظيمة، واحترام وتقدير حالة التعدد المنتشرة في معظم المجتمعات، وما يتلاحظ بردود وأثر تلك المفاهيم بوضوح في رؤيته لمستقبل الثقافة المصرية، وهذا ما كان يبدو مؤكدًا في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" حينما قال: "عناصر ثلاثة تكوّن منها الروح الأدبي المصري منذ استعربت مصر، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه عن المصريين القدماء، والعنصر الثاني هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، أما العنصر الثالث فهو هذا العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائمًا، والذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة.. وعليه، فإني أحب أن يقوم التعليم المصري على شيء واضح من الملاءمة بين العناصر الثلاثة"..  
نعم، طه حسين أراد في بداياته أن ينزع قيود التخلف والتراجع الحضاري من عقل مصر، من عقل مَن عاصروه وخرج عليهم وتمرد ضدهم، إنه في تمرده كان منطقيًا وبأطر علمية، وفي رسائله كان نموذجًا للأديب والفنان العصري الذي جاء به القرن العشرون..
قد توالت مواجهات الفارس النبيل طه حسين منذ عودته إلى مصر أول مرة، فقد اشتبك في العديد من المنازلات لمواجهة التحديات الثقافية والتنويرية، والتي من أبرزها الذهاب إلى عقد مقاربات ومقارنات: بين طرق تدريس كليات ومدارس الأزهر وإعداد مناهجها وما يقابلها في الجامعات الغربية، وهو ما أثار ضيق الإدارة ووصولًا إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة المعطاة له، لتغطية نفقات دراسته في الخارج، لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار، فعاد إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي، وفي العاصمة باريس درس هناك مختلف الاتجاهات العلمية في علوم (الاجتماع، والتاريخ اليوناني والروماني، والتاريخ الحديث)، وأعد خلالها أطروحة الدكتوراة الثانية وعنوانها: "الفلسفة الاجتماعية عند بن خلدون"، إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، والنجاح فيه بدرجة الامتياز..
في مشهد بديع عاشه رواد "مقهى ريش" ــ بيت من بيوت أهل الفكر والكتابة والإبداع المصرية ــ في الأيام السابقة لاندلاع ثورة 30 يونية المجيدة، عندما طالعوا صورة فوتوغرافية لعميد الأدب العربي "طه حسين" وهو جالس إلى مكتبه مُبتسمًا وهو يُشهد الحضور أنه قد وقع على استمارة "تمرد" الشهيرة التي أبدع فكرتها وصممها شباب الثورة، وإلى جانبه جلس العظيم "رفاعة الطهطاوي" ممسكًا بنسخة من الاستمارة ذاتها.. هكذا قالت اللوحات المعلقة على أشهر مقاهى المثقفين فى وسط القاهرة..
ويقترب الحضور من الراحل المثقف الوطني الجميل "مجدى عبدالملاك" مدير المقهى، وهو يؤكد أن زبائن المكان هم أصحاب فكرة تعليق لافتات وصور للمشاهير بعد تعديلها بالفوتوشوب لتُظهرهم وهم راضون عن حملة "الشباب الطاهر" على حد وصفه، موقعين على استمارة "تمرد"..
وبمناسبة الصورة، لعل من أشهر صور عميد الأدب العربي طه حسين الشخصية وأبدعها في التكوين الجمالي الذي يحمل الكثير من المعاني التي توجز رسائل ذلك التنويري المصري العظيم، وهي للمصور المبدع المصري الأرمني الفذ "فان ليو"، فمساحات الظل والنور وعلاقاتها في فراغ الصورة ودرجات الاعتام والتنوير في مقابلاتها وتضادها ومعانيها تكشف عن حقيقة البصيرة التي تتجاوز بنورها وتنويرها قدرات البصر إلى الاجتياز لنور المعارف والثقافات، بإعلان انتصار حقيقي للبصيرة المهداة للعميد..
وهي البصيرة التي أشار إليها الشاعر نزار قباني عبر قصيدة شهيرة له أبدعها في ذكراه:
ارم نظاريتك.. ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان 
.. وهو يشير فيها لرد العميد عندما سخر منه منتقدوه ووصفوه بالأعمي، فقال "أحمد الله أنني أعمى حتى لا أرى وجوهكم"..
وهو المبصر القارئ والمتفاعل مع واقع البلاد.. في تعقيب للمتمرد د. طه حسين على خطبة العرش عام 1947، كانت كلماته الحادة والموجعة والمباشرة نقدًا ساخرًا وقراءة لواقع وبشجاعة رائعة من جانب قارئ وطني للأحداث بوعي وقدرة على الشغب المقلق لأهل السلطة.. قال: "كانت رائعة بارعة خطبة العرش التي ألقاها رئيس الوزراء في البرلمان، صورت لنا الحياة المصرية كأحسن ما تكون حياة الأمم: حكومة جادة لا تنام ولا تنيم، وشعب عامل لا يريح ولا يستريح! وقد رضيت الحكومة عن نفسها فأثنت على نفسها، ورضي البرلمان عن الحكومة فصفق للحكومة، وسمع الشعب للحكومة تقول والبرلمان يصفق، فهز الأكتاف وهز الرءوس، وترك الخلق للخالق، وأقبل المترفون على ترفهم ينعمون بغير حساب، وأقبل المحرومون على حرمانهم يألمون بغير حساب".. هكذا كان العميد في بعض مواجهاته المشهود لها..
كما يبدو في دعوته لتحرير المرأة صورة من صور المستنير المتمرد الإيجابي التي تميز شخصية المصلح التنويري في كل العصور، ويذكرنا الكاتب والباحث الرائع "ماجد كامل" أن صورة المرأة في أعمال طه حسين مشرقة وجميلة بفضل شخصيتين هما: والدته وزوجته الفرنسية ولقد اختص بمدحهن بأروع الأوصاف في كتابه الشهير "الأيام"، ولقد كان طه حسين هو أول من طالب بإلحاق الفتاة بالتعليم الجامعي، وحين عرض "طه حسين" علي "لطفي السيد" مدير الجامعة المصرية وقتها موضوع قبول الطالبات في الجامعة سأله لطفي السيد "هل قانون الجامعة يمنع دخول البنات؟ فاجاب طه حسين "إن الدستور نص على أن الجامعة للمصريين ولم يحدد النوع فهي إذن للمصريين جميعًا من ذكور وإناث".. وفي مارس 1937 قدم بعض طلبة وطالبات كلية الحقوق بشأن الرغبة في إدخال التعليم الديني في الجامعة المصرية ومنع الاختلاط بين الطلبة والطالبات مع إيجاد زي موحد للطالبات في الجامعة فكان رد طه حسين (إن المسالة التي أثيرت أخيرًا والتي تتصل باختلاط الجنسين في الجامعة مسالة سخيفة لا أكثر ولا أقل، فقد قلت ومازلت أقول أنى لا أعرف في كتاب الله ولا في سنة رسوله نصًا يحرم علي الفتيات والفتيان أن يجتمعوا في حلقة من حلقات الدرس حول أستاذ يعلمهم العلم والأدب والفن، إذن الجامعة لم تُحدث حدثًا ولم تخرج عن نص من نصوص الدين، وقد كان الفتيان والفتيات يجتمعون في دروسهم الجامعية في عهد الحكومات الماضية ولم تثر المشكلات التي تثار الآن ولم يتقدم أحد إلى الحكومة في التفريق بين الفتيات والفتيان في دور العلم العالية فهل كان المطالبون بهذا نائمين في العهد الماضي ثم استيقظوا في هذه الأيام) ولقد قدم طه حسين مذكرة من 5 نقاط نُشرت في جريدة المصري في 10 /3 /1937 جاء في مضمونها رفض المذكرة التي قدمها طلبة وطالبات كلية الحقوق، وعندما طُرحت لأول مرة فكرة إنشاء كلية للبنات لأول مرة هاجم طه حسين الفكرة بعنف وكتب مقالًا شهيرًا بعنوان "جامعة البنات" كتب فيها يقول (لم يبق إلا أن نُنشئ جامعة خاصة للفتيات دون الفتيان، وما دمنا لا نريد ألا يختلف إلى الجامعة إلا الفتيات دون الفتيان فقد ينبغي أن نُزيد ألا يعمل في هذه الجامعة إلا الأستاذات دون الأساتذة ليكون الفصل كاملًا غير منقوص)!