رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. عن الذين يعرفون مصلحتك ومصلحة «اللى خلفوك»

قال لى صديقى بعد أن لمح حزنًا دفينًا فى صوتى على الهاتف «ياما دقت على الراس طبول يا أبا حسن»، التقينا فى المساء، لم نتحدث فى شىء، جلسنا نلعب طاولة لـ«نفصل» عن الأحداث وجثث الأطفال وهدم المنازل فى غزة والضفة الغربية، لم تكن مباراة ممتعة كما توقع المتفرجون، لعبنا بدون حماس، ولم يكن هدف كل واحد منا الفوز على الآخر، صديقى هذا معرفة قديمة جدًا، وفى الأحداث الكبرى التى كنا نشعر فيها بالعجز وخيبة الأمل كنا نلتقى، لا للتعليق على الأحداث، ولكن لكى نتدرب على الصمت، ونتأمل ما تفعله الكوارث فى الذين نعرفهم، الأنقياء «وعددهم ليس قليلًا» لا نسمع لهم صوتًا، لأنك أمام الوحشية والقتل الجماعى تشعر بأنك بلا حنجرة، وهؤلاء إذا طلبت من أحدهم رأيًا أو مشورة يبتسم ابتسامة منسحب من الحياة، فى المقابل يظهر تجار الكوارث، الذين يفكرون فى الغنائم التى سيحصلون عليها بعد وقف إطلاق النار، هؤلاء عرفناهم منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى، أيام كان الترحيب بذبح العراق له مكافأة عظيمة، كنا أيامها ضد حماقة صدام حسين وغزوه الكويت، وفى الوقت نفسه ضد التدخل الأمريكى الأوروبى، فتحت الصحف الخليجية أبوابها لنخبة جديدة مستعدة طوال الوقت لتقديم خدماتها، يلجأ إليها الأوروبيون والأمريكان إذا كانت السبوبة تتعلق بحقوق الإنسان أو الديمقراطية، وإذا تجرأت واعترضت، فيتم وضعك فى خانة داعمى الاستبداد، ومع ظهور الفضائيات الخليجية منتصف تسعينيات القرن الماضى تم انتخاب مجموعة عمليات لاستهداف الضمير، الضمير الذى قال عنه فيكتور هوجو «هو حضور الله فى الإنسان، ويقظة الضمير من سباته هى عظمة فى الروح ومجد وخلود، وأنا لا أطلب إلا عفوًا واحدًا هو عفو ضميرى عنى»، نجح هؤلاء فى ضرب المبادئ الأخلاقية التى تسيطر أو تتحكم فى أعمال المواطنين وإحساسهم الداخلى بكل ما هو صحيح أو خاطئ، كانت منحة كولن باول لتحسين صورة أمريكا فى المنطقة العربية وفى مصر تحديدًا بعد تدمير العراق بداية لمرحلة جديدة للاتجار بالمشاعر الوطنية، ثلاث صحف فى القاهرة روّجت لليبرالية «تبقت واحدة منها»، وتم إنشاء قناة الحرة وإذاعة «سوا» وعدد من دكاكين المجتمع المدنى، كانت نخبة الرئيس مبارك الاقتصادية «الليبرالية» سعيدة بما يحدث، واستثمرت هى الأخرى فى الإعلام لحماية مصالحها، وتعامل النظام السياسى مع حالة السيولة الجديدة على أنها تصب فى صالحه أمام الغرب، وبدأ يقرب صبية تحسين صورة أمريكا باعتبارهم يعبرون عن النخبة فى مصر، تقاطعت المصالح، وأصبح نجوم التوك شو أهم من المفكرين والأدباء والعلماء، وتم تسليم المواطن البسيط، الذى يبحث عن إجابات عن الأسئلة التى تشغله، إلى هؤلاء، وكانت النتيجة المفزعة التى نعيشها هذه الأيام، لم نسمع طوال هذه السنوات صوتًا يتحدث عن فلسطين، ولا عن إسرائيل التى اغتصبتها ونكلت بشعبها طوال ٧٥ عامًا، لم يتحدث أحد من رموز التمويل الأجنبى عن عودة الاستعمار القديم وتدخله فى أدق تفاصيل مستقبل أبنائنا واستهداف حدودنا الوطنية المقدسة، وإذا قلت هذا فأنت من مؤيدى النظام، أو أنت لا تفهم فى السياسة والموضوع أكبر مما تتخيل، الكارثة أن هؤلاء صدقوا أنهم أبطال، وأنهم يعرفون مصلحتك ومصلحة «اللى خلفوك» أكثر منك، نحن نشاهد هذه الأيام شعبًا يباد، ونشاهد كيف يسعى خصومك، الذين يعمل هؤلاء لصالحهم، إلى تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر المعنى والتاريخ والمكانة، ومع هذا تجد نجمًا تليفزيونيًا يعمل عند أكثر من كفيل يبرر ما يحدث، ويستضيف أجراء يقللون من شأن الذين يتمسكون بأرضهم، وفى الأماكن الليلية ومنصات التواصل الاجتماعى يتبارى المحللون، الذين ارتبطت مصالحم بالممولين، فى المزايدة على من يقول رأيًا مخالفًا لقناعاتهم والذين يعتقدون أنهم سيكسبون بسببها بعد تصفية القضية، لم يفطن هؤلاء إلى الصحوة الوطنية التى غمرت مصر كلها، لم تلفت نظرهم الطفرة التى حدثت لوعى الشباب ودعمه القضية الفلسطينية التى لم تتناولها فضائيات وصحف كولن باول، الأموال التى تم صرفها على إبعاد الناس عن قضاياهم الحقيقية ضاعت، لأن الفطرة النقية تكسب دائمًا، وهنيئًا لمرتزقة الأمريكان والأوروبيين والنفطيين ببراميل الدولارات التى راكموها، ورغم الحزن والبكاء وقلة الحيلة بسبب العدوان الإسرائيلى الأمريكى الأوروبى الهمجى المدعوم من بعض حكام العرب على أهلنا فى فلسطين المحتلة، إلا أن الكارثة أظهرت مصر أخرى لا تذهب إلى استديوهات التوك شو.. وكشفت أصواتًا مأجورة تعمل ضدها.. حتى لو ادّعى أصحابها غير ذلك.