رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بوابات الأمل.. "الدستور" شاهدة على وقائع ملحمة إدخال المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح

المساعدات
المساعدات

لم يكن صباح السابع من أكتوبر مثل ما قبله من الأيام، فقد استيقظت المنطقة العربية، على زلزال فجرته فصائل المقاومة الفلسطينية فى غزة، بعد أكثر من ١٧ عامًا من الحصار المفروض على القطاع.

ومثلما شاهد العالم رد الاحتلال على هذه الهزيمة العسكرية الكبيرة، التى تعرض لها، بتنفيذ عملية انتقام جماعى فى المدنيين فى قطاع غزة، منفذًا غارات جنونية تحرق الأخضر واليابس؛ فقتلت من قتلت من النساء والأطفال العزل، وسط صمت دولى مطبق، صاحبه انحياز كامل من الإعلام الغربى لرواية الاحتلال.

هذا الانحياز جعل الصحفيين فى مصر والوطن العربى يعيدون رؤيتهم لمفاهيم المهنية التى طالما تشدق بها الإعلام الغربى، فلطالما كنا نحسد ذلك الإعلام، فى كثير من الأحيان، على ما لديه من مساحة حركة تمنينا لو توافرت لنا مثيلتها، لكن زلزال السابع من أكتوبر كشف زيف هذه المهنية الإعلامية المزعومة، وتحطمت أسطورة حرية الإعلام الغربى كما تحطمت أسطورة الجيش الذى لا يُقهر.

دفعنى انحياز الإعلام الغربى لرواية الاحتلال وغيرى من الصحفيين المصريين، لاستنفار كل طاقتنا والبحث عن طريقة يمكن بها نقل الحقيقة، وتوضيح بشاعة جرائم الاحتلال مهما كان الثمن.

القافلة ضمت شبابًا من المحافظات.. وجنودنا «خلية نحل»

بحثت، كما بحث غيرى، عن طريقة يمكن أن نصل من خلالها لأقرب نقطة ممكنة للحدود مع القطاع، لكن الطرق كانت مغلقة، حتى جاء إعلان التحالف الوطنى للعمل الأهلى عن إطلاق قافلة مساعدات إنسانية وإغاثية عاجلة تتوجه فى أسرع وقت إلى غزة. حاولت اللحاق بتلك القافلة فى يوم انطلاقها الأول، لكن الظروف لم تكن مواتية، حتى جاءت الفرصة مرة أخرى بعد ذلك بأيام قليلة، حيث انطلقت قافلة جديدة تضم عددًا من المتطوعين والمتطوعات متوجهة إلى معبر رفح.

حينها تواصل معى أحد الأصدقاء من القائمين على القافلة، متسائلًا: هل ما زالت لدىّ النية للذهاب إلى معبر رفح؟ ودون تردد أخبرته بموافقتى، واتفقنا على موعد ومكان اللقاء للانضمام إلى تلك القافلة.

وبالفعل عدت إلى منزلى مسرعًا لأستعد، وجلست أمام حقيبتى أفكر، ما الأدوات والأشياء التى يمكن أن أصطحبها فى مهمة كهذه، ثم قررت ألا أصطحب معى سوى الملابس واحتياجاتى الضرورية، وتوجهت إلى مكان اللقاء قبل الموعد المحدد بأكثر من ساعتين.

المفارقة الأولى تمثلت فى أننى وجدت عددًا من المتطوعين المنضمين للقافلة قد وصلوا أيضًا إلى نقطة اللقاء قبل الموعد، وانتظرت الصديق المشترك كى يفسح لى المجال للتعرف على هؤلاء الشباب والشابات، فقد يبدو السؤال الذى سأطرحه خلال بداية التعرف عليهم غريبًا بعض الشىء، لكننى طرحته بالفعل ووجدت أن الجميع قد تقاسم نفس الفكرة أثناء التجهيز لتلك الرحلة، ما الأشياء التى قد يحتاج إليها شخص ذاهب إلى آخر نقطة فى الحدود المصرية؟، ما الاحتياجات التى قد تساعد على المعيشة فى مكان غير معد بالأساس للمعيشة؟

وكانت الإجابة التى تشاركها الجميع، أن تلك الرحلة ليست رحلة ترفيهية، وأن الهدف منها هو مد يد العون لأهل قطاع غزة، فليست هناك حاجة لاصطحاب أى من أدوات الزينة المعتادة لدى الفتيات على سبيل المثال، وإنما الاحتياجات الضرورية فقط، وانتظر الجميع والوقت يمر بصعوبة ومشقة، وكأن عقارب الساعة تأبى الحركة.

مجموعة من الشباب والشابات معظمهم يلتقى للمرة الأولى، ولا يعرف بعضهم بعضًا، لكن جمعهم هدف واحد، حينما وصلت الحافلة التى تقلنا لنقطة الالتقاء الثانية بباقى الحافلات أخذ كل من المتطوعين مكانه.

وبدأ التعارف، وفوجئت بوجود شباب لم تتجاوز أعمارهم الـ٢٢ عامًا، جاءوا من محافظات متعددة ولديهم مهن وثقافات مختلفة، ما بين المهندس والمحاسب وخريج الجامعة منذ أشهر قليلة، أخبرنا أحدهم خلال الرحلة بأنه لم يخبر أسرته بحقيقة وجهته، وكى يُسمح له بالسفر قال لهم إنه ذاهب إلى مدينة شرم الشيخ مع بعض أصدقائه.

تحركنا من نقطة الانطلاق الأولى فى حوالى الثانية صباحًا، قبل أن نلتقى فى نقطة الانطلاق الثانية بالقرب من محافظة الإسماعيلية، بثلاث حافلات أخرى تضم مجموعات من المتطوعين والمتطوعات المنتمين لمؤسسات أهلية، ضمن قافلة التحالف الوطنى للعمل الأهلى.

وكان اللقاء الأول بالمجموعات الأخرى من الشباب فى أول توقف لنا، بعد انتهاء الجزء السهل من الطريق بطبيعة الحال، على أبواب أنفاق «تحيا مصر».

لم تكن المرة الأولى التى أعبر فيها قناة السويس متوجهًا لسيناء الحبيبة، سواء من خلال نفق الشهيد أحمد حمدى أو كوبرى السلام، لكنها كانت المرة الأولى التى تكون فيها الوجهة إلى بوابة مصر الشرقية، معبر رفح، كما أنها المرة الأولى لى ولغيرى من المتطوعين التى يكون العبور عبر أنفاق «تحيا مصر».

وكان المشهد غاية فى التنظيم والإتقان، خلية من النحل تعمل لتسهيل مهمة العابرين، سواء للقافلة، أو من غيرهم، وجنود الجيش المصرى والشرطة المصرية يواصلون العمل دون توقف، وفى كل لحظة تتعامل فيها مع أحد الضباط أو المجندين أثناء مرور الحقائب عبر أجهزة التفتيش أو النظر فى بطاقات الهوية تجد الابتسامة الهادئة التى تبعث برسائل طمأنة، خاصة حين يعلم من تتعامل معه من الضباط أو المجندين وجهتك، حيث تجد زيادة فى مساحة الابتسام والود وكلمات الدعم والثناء وتمنيات التوفيق.

أصوات انفجارات مرعبة.. طمأنّا أنفسنا بالغناء الوطنى.. واستقبلنا أمين «الأمم المتحدة» بصور الشهداء

بعد حوالى ١٠ ساعات وصلنا إلى مبتغانا، ها هى شاحنات المساعدات المصرية بجوارنا على الجانبين، ها هو علم مصر يلوح فى الأفق من بعيد ويقترب، أمامنا لافتة مكتوب عليها «ميناء رفح البرى»، ها نحن نصل إلى ما كنا نريد ويتحقق الجزء الأول من الهدف.

ما إن هبطنا على الأرض، وعلى بُعد خطوات من معبر رفح حتى وجدنا مجموعة من المتطوعين بعضهم من شمال سيناء، وبعضهم من محافظات أخرى، يفترشون الأرض ويجلسون أمام أبواب المعبر.

كانت الحافلات قد أطفأت محركاتها، لكن فجأة سمعنا صوتًا أشبه بالطنين، وبعد قليل صعقنا بصوت انفجار شديد.

رغم الخوف من ذلك الصوت، نظرنا جميعًا باتجاه المساحة التى يمكن من خلالها النظر ومعرفة ماذا يحدث، فإذا بفتاة من الجالسين عرفت فيما بعد من خلال حديثنا أنها من شمال سيناء تبلغ من العمر ٢٤ عامًا، تقابل خوفنا وأسئلتنا الحائرة على وجوهنا بابتسامة.

وقالت: «لن تروا شيئًا، فقط ستسمعون الصوت كلما كان هناك قصف، وهذا الصوت الذى تبحثون عنه هو صوت طائرات الاحتلال لكننا لا نراها، فهى بعيدة لكن صوتها لا يتوقف، مع الوقت ستعتادون على سماعها».

كان هذا هو الاستقبال فى دقائقنا الأولى أمام المعبر، قصف للأبرياء فى القطاع، وصوت مقبض لطائرات الاحتلال لا يتوقف، وبالفعل مع مرور الوقت أصبح ذلك الصوت مألوفًا لنا نحن أيضًا.

مرت الليلة الأولى وقد اعتدنا بالفعل سماع أصوات القصف، وفى صباح اليوم التالى كان المخيم عبارة عن شعلة نشاط لتنظيف بقايا الطعام وزجاجات المياه الفارغة، ثم التوجه إلى بوابة المعبر، بعدما علمنا بقرب وصول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، هنا قرر المتطوعون استقباله بصور شهداء غزة من الأطفال والنساء؛ ليرى إن كان لم ير، ويعرف ما يفعله الاحتلال بالأطفال والنساء فى غزة.

وتفاعل بعض المتطوعين، ممن يجيدون الحديث بالإنجليزية مع المراسلين الأجانب المصاحبين له، وكان رفض المتطوعين التعاون معهم وإعطاءهم أى تصريحات جماعيًا، وكان الرد واضحًا وصريحًا: «أنتم إعلام منحاز، أنتم إعلام يزيِّف الحقيقة، وينصف الجانى على حساب صاحب الأرض، ويساوى بين الجلاد والضحية، فوجودكم غير مرغوب فيه والتعامل معكم غير مرحب به».

اصطف الجميع هاتفين لغزة وأهلها فى مواجهة الأمين العام للأمم المتحدة والإعلام الغربى، حمل الجميع أعلام مصر وفلسطين وغطت أصوات حناجرهم على أصوات طائرات الاحتلال التى لم يتوقف طنينها.

مساعدات بآلاف الأطنان تتدفق.. وشعرنا بالأمان حين شاهدنا حشودًا من الجيش

بعد ساعات قليلة من الانتظار حتى انتهاء الإجراءات، بدأ الجزء الثانى من الطريق إلى معبر رفح، وهو عبور قناة السويس عبر أنفاق «تحيا مصر» ومنها إلى أرض سيناء، وما إن عبرنا القناة حتى وجدنا أمامنا مساحات شاسعة من الصحراء على يمين ويسار الطريق، يتخللها بعض المنازل بسيطة البناء، وكانت هى نقطة التفتيش الأولى.

ابتسامة ودودة لا تخلو من صرامة، هكذا استقبلنا رجال الجيش المصرى قبل بضع كيلومترات من بوابة شمال سيناء، رجال يقفون فى الصحراء مرتدين ملابس الميدان الكاملة رغم حرارة الشمس المرتفعة، مستعدين لمواجهة أى خطر، انتظرنا قليلًا حتى جاءت التعليمات والسماح لنا بالعبور، ثم وصلنا بوابة شمال سيناء لترتفع درجة الحرارة، وأسهمت الصحراء المنتشرة حولنا فى شعورنا بها.

تمر الساعات ومساحات الصحراء تأخذ فى الزيادة، ونقاط التفتيش الثابتة أيضًا تأخذ فى الزيادة، وفى كل مرة يجب أن يتوقف جميع السيارات، وتتم نفس الإجراءات التى مررنا بها فى نقطة التفتيش السابقة دون زيادة أو نقصان، حتى اعتدنا الأمر مع مرور الوقت، ورغم زيادة عدد الساعات فإن حماس الشباب والشابات الذين أسعدنى الحظ بلقائهم منذ بداية الرحلة لم يفتر.

نتابع جميعًا الأخبار عبر هواتفنا المحمولة، ونرى أخبار القصف تتزايد وعدد الشهداء يتزايد، علامات الحزن تبدو على الجميع وتأخذ المناقشات اتجاهًا واحدًا فقط، وهو التمنيات بأن تثمر الجهود المصرية عن شىء وأن تكون هذه المجموعة فأل خير على المعتصمين أمام معبر رفح، وأن تتمكن المساعدات المصرية المتمركزة، منذ أيام، أمامه من الدخول وإغاثة الملهوفين فى قطاع غزة.

ودارت النقاشات حول المساعدات الطبية ومدى تأثيرها على إنقاذ الوضع فى مستشفيات غزة التى تابعنا جميعًا مدى سوء الأوضاع بها، لكن وجهة نظر أخرى كانت ترى أن نقطة المياه التى ستدخل القطاع لا تقل أهمية فى هذا التوقيت عن المساعدات الطبية، فما نفع أن تشفى جرحًا ينزف صاحبه جوعًا وعطشًا.

النقاش وصولنا لمدينة العريش، فقد شاهدنا جميعًا بجوار الطريق شاحنات بالقرب من مطار العريش تخرج من المطار، وهى محملة بالمزيد من المساعدات الإنسانية والطبية، ليخيم الصمت الثقيل على الجميع. ويتبادر إلى الأذهان السؤال الأصعب: ما جدوى تكدس كل تلك المساعدات بجوار المطار، إضافة إلى المتكدسة بالأساس أمام المعبر، دون أن تدخل لقطاع غزة فى أقرب وقت ممكن؟ وكيف يقف العالم مكتوف الأيدى وتصم الآذان عن صرخات النساء والأطفال؟

وأعود لسؤالى الرئيسى الذى كان سببًا إضافيًا بالنسبة لى كى أقطع كل تلك المسافة، كيف ينحاز الإعلام الغربى لرواية الاحتلال رغم صور الخراب والدمار وصور الشهداء من النساء والأطفال والشيوخ فى قطاع غزة؟

قطع الصمت الذى خيم على الحافلة أكثر من ساعة، مطالبة أحد الشباب المتطوعين لنا بأن ننظر إلى جانبى الطريق، فإذا بمشهد يدعو للفخر ويدعو للثقة بأن أحدًا لن يفرض على هذه الأمة إرادته، وأن القرار المصرى سيظل مستقلًا برغم كل الضغوط والمحاولات. رأينا على جانبى الطريق وفى الصحراء المترامية الأطراف، مئات من الدبابات والمدرعات والضباط والجنود، يقفون تحت حرارة الشمس الحارقة فى قلب الصحراء، وكأنهم يقولون لنا: اذهبوا فى مهمتكم، ونحن هنا خلفكم نسمع ونرى ونحرس تلك الأرض مهما كان الثمن.

بكينا ونحن نحمّل الأكفان على الشاحنات.. تصاعدت صيحات التهليل لحظة مرورها من معبر رفح.. والقصف كل دقيقة

فى مساء ذات اليوم، ورغم التعب والإرهاق، طُلب من المتطوعين الاستعداد، فى ظل احتمالية دخول المساعدات الطبية فقط فى تلك الليلة، ليسارع الجميع بالتوجه إلى الشاحنات، والعمل بمنتهى الجهد على تعبئة أكبر كمية من المساعدات الطبية والدوائية إلى السيارات التى ستعبر بعد قليل إلى القطاع. وتعرضنا لموقف قاسٍ، حين أتت سيارات نصف نقل من العريش مساءً، محملة بالأكفان، وأخذها الشباب المتطوعون؛ ليضعوها فى الشاحنات وسط حالة من البكاء أثناء تحميلها فى شاحنة المساعدات الطبية.

ومع تحركات الشاحنات استعدادًا لأخذ وضعها الطبيعى أمام المعبر تمهيدًا لعبورها، انطلق التهليل والدعاء وصيحات الشباب المتطوعين، لكن مدة الانتظار طالت قبل أن تتصاعد حدة هجمات الاحتلال على قطاع غزة وعلى رفح من الجانب الفلسطينى، وكانت هذه الليلة الأصعب بالنسبة لنا من شدة القصف، الذى كنا نستمع إلى صوته فى كل دقيقة طوال تلك الليلة. وفى صباح اليوم التالى جاءت اللحظة التى كان الجميع ينتظرها، ها هى الشاحنات تتحرك أخيرًا، ها هى ٢٠ سيارة محملة بالمساعدات، بما فيها الشاحنات التى كنا نراها تتجهز، تغادر أمامنا وتعبر بوابة المعبر، كم كنت أتمنى أن أصعد فوق تلك الشاحنات ومرافقتها أثناء دخولها إلى الجانب الفلسطينى من المعبر، اختلطت دموع الفرح لدى المتطوعين بأصوات الدعاء، لكن الجزء الأصعب، والهدف الذى تجمَّع من أجله كل هؤلاء المتطوعين من مختلف المحافظات يتحقق، ودخلت المساعدات إلى القطاع. ٣ أيام قضيتها أمام معبر رفح رأيت فيها شبابًا وشابات من مختلف الأعمار، معظمهم لم يكن يعرف عن القضية الفلسطينية، أو يعى أبعاد الأزمة قبل السابع من أكتوبر، بسياسة الأمر الواقع التى ينتهجها الاحتلال التى كان لها تأثير فى وعى تلك الأجيال، التى أصبحت حاليًا تعرف جيدًا من هو المحتل، وماذا يفعل بالشعب الفلسطينى، وما هى القضية العربية. الأكيد بعد ما رأيته فى تلك الرحلة أن ما قبل السابع من أكتوبر أصبح مختلفًا تمامًا عما بعده، وأن الشباب المصريين مرتبطون بأرضهم ويدعمون ويثقون فى جهود الدولة المصرية، ولن يتخلوا عن شبر من أرض مصر مهما كانت الضغوط.