رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوهام الكتابة وآليات السوق

 

 

هل التغيرات العنيفة التى طالت البشرية غيّرت من الدافع لكتابة الأدب؟ سؤال طرحه علىّ أحد الزملاء الصحفيين مؤخرًا، ولم أتمكن من الإجابة عنه على الهاتف، أردت أن أقول له إن الكاتب يبتكر حياة جديدة فى الفراغ، كما قال أحد الحكماء، ينقر على الصمت ليحدث صوتًا، يثبت الزمان والمكان على صفحة من حرير، ويسكب نهرًا من قلب صغير الحجم. وحيث تلد الكلمات كلمات، لتنشر عبقًا مثل زهور تبتكر عطورًا، ولكن السياق الذى يدور حوله الموضوع الذى اختارنى للحديث فيه مرتبط بالمكان الذى سينشر فيه موضوعه، فكرت فى أساتذتى الذين بذلوا أعمارهم لرفعة الأدب فى مصر، كانوا لا ينتظرون عائدًا ماديًا ولم تكن الجوائز مزدهرة كما يحدث الآن، كانوا يشعرون بأنهم يشيدون صروحًا ليتعيش فيها الأجيال المقبلة. فى السنوات الأخيرة تم التغرير بأرواح طيبة لصناعة «سوق» تباع فيها المواهب المبشرة والانتماءات، بهدف تفريغ البلد من روحه، ليس فى الأدب فقط، ولكن فى الغناء والفن التشكيلى والمسرح والنشر. الذين تتلمذوا على أيدى الذين صنعوا هيبة الثقافة المصرية يشعرون بالمرارة، ليس بسبب التحالفات الإقليمية الجديدة التى تستهدف أجمل ما فينا فقط، ولكن بسبب الرغبة فى تسطيح المسائل الكبرى، توجد لا شك فترات جفاف فى حياة المشتغلين بالكتابة، رغم وفرة ما يدفع إلى الكتابة، فيلجأ الواحد منا إلى البحث عن سطور ملهمة هنا أو هناك، على أمل أن تنبت فكرة مختلفة، نصائح كبار الكتاب والشعراء والمتصوفة قادرة على إضاءة الطريق، نعود إليها بين الحين والآخر ونستمتع ونطرب لها، ومع هذا لا نعمل بها، الأحداث المتتالية والتغيرات التى طرأت علينا وعلى المحيطين بنا وعلى البشرية تحتاج إلى ما هو أكبر من الإلهام، الشعر أصبح عزيزًا، لأنك لكى تكتب قصيدة تعبر عن الوحشة التى تعيشها، عليك أن تتجاوز كل ما كتبته وكل ما قرأته من شعر، وفى مناخ شعبوى معادٍ للشعر، وحين تشرع فى سرد حكاية تكتشف أن الشعر الذى يحملها هو الآخر مأزوم، فى حين أنك تريد أن تحكى فقط لكى تشعر بأنك لست وحدك فى هذا العالم، وأن هناك مَن يصغى اليك، ولا يريد منك أن تكون حكيمًا أو مناضلًا أو صاحب رؤية ثاقبة، هنرى ميلر يقول: «أكتب أولًا ودائمًا، الرسم والموسيقى والأصدقاء والسينما، كل هذا يأتى بعد ذلك»، ويقول لك أيضًا وهو يقدم نصائحه للكتّاب: «لا تكن حصان جر! اعمل بسرور فقط»، هو لا يعرف أن المسرات عزيزة هى الأخرى، وأنك ستظل حصان جر، تسعى، لأن الكتّاب يمتهنون فى أوطاننا مهنًا أخرى، ويجاهد الموهوبون منهم دفاعًا عن لغتهم وحياتهم بالكتابة، الكتابة التى لا تحتاج ورشًا لتعلمها، ولا تحتاج إلى جوائز تشترط أن تكون شخصًا آخر لا يحمل جنسية بلده، شخصًا لا يصغى إلى الأحزان الصغيرة المركونة فى القلب. «شتاينبك» من القلائل الذين تتسق أقوالهم مع منجزهم، هو يقدم نصائح عملية تشعرك فجأة بالنشاط، وتجلس إلى مكتبك، ولا تجد أيضًا ما تضيفه، يقول لك: «اكتب بحرية وبأسرع ما يمكن وألقِ كل شىء على الورق، لا تقم أبدًا بالتصحيح أو إعادة الكتابة حتى ينتهى الأمر برمته، عادة ما تكون إعادة الكتابة أثناء العمل ذريعة لعدم الاستمرار، كما أنها تتعارض مع التدفق والإيقاع، الذى لا يمكن أن يأتى إلا من نوع من الارتباط اللا واعى مع المادة»، ومن نصائح شمس الدين التبريزى التى ترجمها صديقنا حسام علوان: «من غير المجدى محاولة معرفة أين يقود الطريق، فكّر فقط فى الخطوة الأولى، والباقى سيأتى»، لأن «هذا العالم مثله كمثل جبل، صداك يعتمد عليك، إذا كنت تصرخ بأشياء جيدة فإن العالم سيردها إليك، إذا كنت تصرخ بأشياء سيئة فإن العالم سيردها إليك، حتى لو قال شخص ما عنك شيئًا سيئًا، تحدث جيدًا عنه، غيّر قلبك لتغير العالم»، ومن نصائح «شتاينبك» الجميلة أيضًا: «انس جمهورك العام، فى المقام الأول فإن الجمهور المجهول الهوية سيخيفك حتى الموت، وثانيًا، على عكس المسرح، فهو غير موجود فى الكتابة، جمهورك قارئ واحد لقد وجدت أنه من المفيد أحيانًا اختيار شخص واحد، شخص حقيقى تعرفه، أو شخص متخيل والكتابة إليه»، التشيكى ميلان كونديرا حين سُئل: «لماذا تكتب؟»، أجاب: «وهم سخيف، ذلك أننا مقتنعون بأننا نكتب لنقول ما لم يقله أحد، قول ما لم يقله أحد تعنى: معارضة الجميع، الكتابة، إذن، هى متعة المعارضة، سعادة أن تكون وحيدًا ضد الجميع، فرح أن تستفز أعداءك وتثير أصدقاءك، مع الأسف، بعد انتهاء الكتاب، نود أيضًا أن ننال الإعجاب، لا مفر من هذا الأمر لأنه إنسانى، ولكن كيف يستطيع أن يعجب من هو شغوف بتحدى الكل؟.. هذا هو التناقض الذى ترتكز إليه مهنتنا».