رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العمل تحت وطأة الكوارث.. «مسعفو درنة» يواجهون الموت بلا تأمين

درنة
درنة

جاء النداء العاجل مبكرًا إلى أبو بكر آدم، مُسعف متخصص في انتشال الجثث، فور غمر السيول مدينة درنة الليبية، بالتحرك نحوها للمساهمة في إنقاذ المصابين. لم يستلم من هيئة الإسعاف الليبية التي يعمل بها أي أدوات سوى سترة مدوّن عليها اسمه وشعار الهيئة. 

على مدار أسبوع ويوم من وقوع الكارثة، انتشل بكر ما يقرب من 50 جثة جرفتهم المياه أو انقضت عليهم المباني، يستعمل في مهمته قفازات وفي بعض الأحيان كمامة إذا توافرت، يقول بكر إن العمل تحت وطأة الكوارث يشبه التوقيع على شهادة الوفاة.

مسعفو درنة

في اليوم الثالث عشر من الكارثة بدأ يظهر طفحًا جلديًا في أجزاء متفرقة من جسده، وتفاقمت بين الاحمرار والحكة، انتقل بكر إلى مستشفى بني غازي للعلاج وعلم هناك وفق تقرير طبي اطلعنا عليه أنه أصيب بعدوى بكتيرية نتيجة التعامل مع جثث متحللة.

يقول لـ«الدستور»: «التعامل مع الجثث لا سيما في المياه يتطلب تطهيرًا بالكحول بشكل دوري وليس فقط استحمام في نهاية اليوم بالماء، لكن لا تتوافر معدات تأمين للمسعفين العاملين في كارثة درنة أو تطعيمات وقائية أو مطهرات ضد الأوبئة، كنا فريقًا مسعفين مكون من 50 مسعفًا أصيب ما يقرب من 23 مسعفًا منّا بإصابات مختلفة جراء ذلك».

في 10 سبتمبر الماضي ضربت عاصفة دانيال الاستوائية مدن البيضاء وبني غازي وسوسة في ليبيا، وفي 11 من الشهر ذاته انتقلت العاصفة إلى درنة التي انهار سدها وأطلق نحو 30 مليون متر مكعب مياه على أهالي المدينة، أدت إلى مقتل وإصابة نحو 10 آلاف شخص وهناك 8500 ألف آخرين ما زالوا مفقودين.

المصدر - الصفحة الرسمية للقائد العام للقوات المسلحة الليبية

مسعفين تابعين لهيئة الإسعاف الليبية

يورد هذا التقرير شهادات من مسعفين تابعين لهيئة الإسعاف الليبية يعلمون في انتشال جثث كارثة درنة من البحر وأسفل الأنقاض وإسعاف المصابين في البيئات الخطرة، دون وسائل تأمين وحماية أو تطعيم ضد الأوبئة والأمراض، ما أدى إلى إصابة بعضهم بأمراض/ إصابات مختلفة وفق تقارير طبية اطلعنا عليها.

بكر: «نقف بين أرواحنا والعمل الإنساني»

ما زال «بكر» يتلقى العلاج من الطفح الجلدي الذي انتشر في جسده، وكاد أن يصيبه بتسمم في الدم في حال استمراره التعامل مع الجثث المتحللة دون وسائل تأمين، إذ أن بعض تلك الجثث جُرحت وكانت تنزف قبل الوفاة وفقًا له.

درنة هي مدينة مُطلة على البحر المتوسط شرقي ليبيا، ويبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، وبني فيها السد الذي هدمته السيول خلال العام 1978.

يعزى المُسعف ما حدث له بأنه يؤدي رسالته الإنسانية والتي لم يستطع التوان عنها بمجرد وصوله درنة، ورؤية الوضع الذي وصفه بالمأساوي: «كان من الصعب رؤية المشهد في درنة  وانتظار التأمين أو التطعيم إذ إن قسم انتشال الجثث هو الأساس في عملية الإسعاف».

مسعفو درنة

«أبو خزام» بدون تأمين ويصاب بجرح في الرأس

كان القدر أسوأ مع أبو خزام، مُسعف آخر يعمل في هيئة الإسعاف الليبية، والذي تخصص منذ اليوم الأول بكارثة درنة في انتشال الجثث أسفل أنقاض المباني التي هدمتها مياه السد: «كان العمل شاقًا وسريعًا ولا نرتدي سوى سترة الإسعاف فقط».

لم تُسلم الهيئة المسعف خوذة أو Safety boat (حذاء مخصص للعمل في البيئات الخطرة)، أو شنكار للقدم (واقي الكاحل) منذ بداية عمله أسفل الأنقاض، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة العمل حتى أصيب في الليلة الثانية من الكارثة.

يقول خزام لـ«الدستور»: «كان هناك عقار مكون من 4 أدوار سقط على أصحابه بقوة دفع المياه، وشكلت الأنقاض تبة مرتفعة وكأنها الدور الأرضي، كنت أصعد عليها من أجل رفع الأنقاض والبحث عن جثث أو مصابين، تعثرت وسقطت منها على قدمي ورأسي».

أصيب المسعف بجرح قطعي في الرأس نتيجة اصطدامها بالأرض دون خوذة، والتوى كاحله أسفله، وتم نقله إلى مستشفى بني غازي لتلقي العلاج، وذلك لخروج أغلب مستشفيات درنة عن العمل.

مسعفو درنة

جهاز الإسعاف الليبي: «تأمين المسعفين حاليًا رفاهية»

الوضع المأساوي الذي يمر به مسعفي درنة، لا ينكره الدكتور أسامة علي، الناطق الرسمي باسم جهاز الإسعاف والطوارئ في ليبيا، إذ يؤكد لـ«الدستور» أن الهيئة لا تهتم بتأمين المسعفين في وقت الكوارث: «الوقت غير مناسب لتأمين المسعفين نقوم بتسليمهم السترة الصفراء فقط ولا يوجد وقت لتوفير خوذ حماية أو أحذية Safety».

يقول: «نمر بكارثة حقيقية وفي وقت الكوارث لا نعول اهتمامًا م لتأمين المسعفين لا يوجد وقت أو إمكانيات لفعل ذلك، ومن الصعب التأمين ضد إصابات العمل لأن درنة عبارة عن ركام ونعتمد على الحذر الشخصي للمسعف، وفي حال الإصابة نقدم الرعاية الصحية والطبية».

 

وعن التطعيمات ضد الأوبئة أوضح أنه من الضروري تحصين المسعفين ضد الكزاز (مرض خطير تسببه بكتيريا منتجة للسموم بعد تلوث الجرح أو التعرض لجروح ملوثة)، مبينًا أن هيئة الإسعاف تحاول الآن تنسيق التطعيمات مع مركز مكافحة الأمراض بعد أسبوعين من الكارثة.

إزاء ذلك الوضع يكشف علي أن الهيئة سجلت 40 إصابة بين المسعفين منذ بداية الكارثة ما بين سقوط خرسانة على الرؤوس أو الإصابة بأمراض جلدية ومعوية، لكن لم تسجل حالات إصابة بالكزاز أو الكوليرا.

الدكتور أسامة علي الناطق الرسمي باسم جهاز الإسعاف والطوارئ في ليبيا

الأمراض المعوية تنتشر بين المسعفين

كان علي يكان، أحد المسعفين الذين أصيبوا بالأمراض المعوية، نتيجة التعامل المباشر مع الجثث المتحللة دون وقاية: «لم نأخذ تطعيمات ضد الأوبئة قبل العمل ولم تقم هيئة الإسعاف بعمل أي تحاليل لنا حتى المستشفيات الميدانية اقتصر عملها على مصابي السيول».

يوضح لـ«الدستور» أنه بمجرد الوصول إلى درنة تعامل مع جثث تعاني نزيف حاد وجروح عميقة، وأخرى جثث جرفتها المياه كانت رائحتها تزكم الأنوف بفعل المياه: «كنت أتعامل معهم عاري اليدين بدون قفازات لا أرتدي سوى سترة الهيئة الصفراء».

بعد أسبوع العمل الأول بدأت تظهر أعراض على يكان منها الإسهال والحمى وهمدان الجسد، ونُقل إلى مستشفى بني غازي ليتضح أنه أصيب ببكتريا معدية نتيجة تلوث في المعدة.

مسعفو درنة

لجنة الطوارئ: «58 مسعفا مصابًا بأمراض معوية»

يكان كان واحد من 58 مسعفا ضمن صفوف الفرق والأجهزة الإغاثية العاملة بمدينة درنة، الذين ظهرت عليهم نفس الأعراض السالف ذكرها عقب الأسبوع الأول من الكارثة، وفق محمد الجارح الناطق الرسمي باسم لجنة أزمة الطوارئ والاستجابة السريعة بالحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب.

محمد الجارح الناطق الرسمي باسم لجنة أزمة الطوارئ 

لكن الجارح، يفسر تلك الأعراض والإصابات بأنها ليست وباء إنما هي أمراض معدية ناجمة عن التلوث الذي شهدته المدينة الليبية جراء الفيضانات المدمرة، وأصابت المسعفين لأنهم الفئة الأولى التي تتعامل مع المصابين والجثث على نحو مباشر، مبينًا أن الإصابات كانت إسهال وارتفاع درجة الحرارة وطفح جلدي.

يتسق ذلك مع مستند خاطب فيه المركز الوطني لمكافحة الأمراض في ليبيا وزارة الصحة الليبية، بضرورة رفع درجة الاستعداد القصوي لفرق الرصد في التبليغ عن أي حالات اشتباه في أمراض تشمل الكوليرا والمالاريا والإسهال وارتفاع درجات الحرارة وأمراض الجلد نتيجة العمل في بيئات غير آمنة والمياه الراكدة التي تزيد من انتشارها.

خطاب  المركز الوطني لمكافحة الأمراض في ليبيا

غرف عمليات الإسعاف: «16 حالة إصابة للمسعفين في المنطقة الجنوبية»

لا يختلف الأمر مع مسعفي المنطقة الجنوبية في درنة، إذ يقول محمد عبدالسلام، مدير غرف عمليات الإسعاف والطوارئ بالمنطقة الجنوبية، أنه لا توجد أي سبل لتأمين المسعفين بداية من التطعيمات ضد الأوبئة مرورًا بالمعدات التي يتم استخدامها في انتشال الجثث وكذلك الملابس في أثناء العمل في البيئات الخطرة.

يستخدم مسعفي المنطقة الجنوبية وفق عبدالسلام، الكمامات المهترئة المتبقية من جائحة فيروس كورونا والتي لا تمنع وصول رائحة الجثث واستنشاق الهواء الخارج منها، إلى جانب السترة الصفراء مدون عليها شعار الهيئة، كما لا يوجد أدوية متوفرة لهم في حالات الطوارئ أو فحوصات دورية.

 

إزاء ذلك رصدت الغرفة بحسب ما قاله عبدالسلام لـ«الدستور» 16 حالة إصابة من المسعفين 7 منهم أصيبوا بطفح جلدي و9 آخرين سقطت عليهم حجارة في أثناء رفع الأنقاض دون أن يكونوا مرتدين خوذ رأس أو أحذية مخصصة للعمل الخطر، ونُقل الجميع إلى مستشفى بني غازي.

إلى جانب ذلك، تتم عملية انتشال الجثث من قبل المسعفين دون تطعيمات مسبقة، ذلك ما أدى إلى إصابة بعضهم بطفح جلدي، وفق لـ«عبدالسلام» الذي يبرر بأن المطالبة بتأمين المسعفين وسط تلك الكارثة يعد رفاهية فعمليات الإنقاذ تتم سريعًا دون الاهتمام بأمان المسعف.

مسعفو ليبيا

الصليب الأحمر تؤمن مسعفيها في الكوارث

على نقيض ما تفعله هيئة الإسعاف الليبية مع المسعفين تهتم جميعة الصليب الأحمر الدولية فرع ليبيا بتأمين المسعف قبل نزوله للميدان أو بيئات العمل الخطرة، وفق توفيق الشكري، المتحدث باسم الصليب الأحمر في ليبيا.

يقول الشكري لـ«الدستور» أن الجمعية تمنع نزول أي مسعف أو متطوع دون تأمينه هو شخصيًا عن طريق الاتحاد الدولي للصليب والهلال الأحمر، مبينًا أنهم يرتدون خوذة رأس وحذاء مخصص للعمل في بيئات الخطر إلى جانب شنكار القدم.

ليس ذلك فحسب، بل يتناولون التطعيمات اللازمة ضد الأوبئة ويكون لدى كل منهم حقيبة إسعافات أولية تخصه بعيدًا عن إسعافات المصابين، وفي حالة ما أصيب المسعف بأي ضرر تتكفل الجمعية بالمصاريف اللازمة حتى يتماثل للشفاء.

توفيق الشكري

ما زال بكر يتلقى العلاج من الطفح الجلدي بجانب عدد من زملائه، بينما لم يقو أبو خزام على العودة إلى العمل مجددًا بعدما شجت رأسه في ميدان العمل، فيما يطالب يكان هيئة الإسعاف بإعطاء التطعيمات اللازمة للمسعفين المصابين بالنزلات المعوية، ويستمر عمل باقي المسعفين وسط الجثث والأنقاض دون تأمين.