رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذين يعيشون فى المقابر

لا أدري، حتى الساعة، كيف عاش صنف من الأحياء في المقابر عيشة كاملة، ولا ريب طبعًا في كونهم مرغمين؛ فظروف قهرية اضطرتهم إلى الأمر العجيب اضطرارًا، ظروف اقتصادية واجتماعية معقدة، ومع الوقت تعودوا أن يحيوا بلصق الفناء!
أعرف كثيرين من هؤلاء، في القاهرة المزدحمة خصوصًا، المدينة العاصمية التي ضغط الناس متونها ضغطًا هائلًا؛ فطردت جماعات من البشر إلى الهوامش، وكان لا بد أن يخلق الهامشيون لأنفسهم وجودًا حيث ألقت بهم الأقدار.. أشاهد كثيرين منهم أيضًا عند زيارتي لموتاي، وغالبًا أجالسهم وأحادثهم، ولا يخلو الأمر من سؤالي لهم عن المخاوف الطبيعية التي يشعرون بها في مثل هذه الأماكن الموحشة، وعن كيفية تدبيرهم لأمورهم والطرق خالية إلا من الكلاب المسعورة؟.
بعض الرجال يعمل حارسًا لمقبرة ما، يأكل عيشه من هذا العمل الذي قد يستغرب الآخرون ظلاله ويتأففون منه، تكون له غرفة صغيرة بمقدمة الأرض التي تحوي المقبرة (يسمي الناس هذه الأرض بالقرافة أو التربة أو الجبانة أو الحوش وأحيانًا بالفسقية؛ لأنها، فيما يخص ماضيًا غنيًا ذا ذوق فني رفيع، كانت تضم فسقيات، تمج الماء فيها نوافير، كالتي في الحدائق والقصور والميادين)، وأسرة هذا الرجل تكون معه على فراش واحد، سواء قل أفرادها أم كثروا!
كان يمكن أن تتولى الحراسة شركات خاصة، بضوابط معلنة وبلا مغالاة، وعلى هذا تنتهي الوظيفة الضئيلة المختلقة لهذا الأسير المسكين ويسكن قلب الحياة، ولكن القصة، كما أشرت، تجاوز مثله إلى ألوف بشرية تعيش غربتها الأخروية المفروضة؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش كمالكي الأموال والأعوان.
أن نجد في المقابر أناسًا وثيقي الصلة بالموت، كمغسلي الموتى ودافنيهم، فهذا أمر طبيعي، لكنني أتحدث عن مجتمعات للموتى امتلأت بمجتمعات الأحياء الذين لا صلة لهم بنعش ولا كفن، وامتلأت، للأسف، بعصابات لابتزاز المارين بموتاهم!  
يقاسي الطيبون المجبرون على سكنى المقابر مقاساة بالغة؛ فالآفاق ضيقة هناك مهما بدت متسعة، ضيقة كصبارة على قبر، والإنسان الذي يجد نفسه جارًا للصمت والسكون، لا الصوت والحركة، وأخص الأطفال، قد يحس بالموت قبل الأوان، بل قد يوغل فيه هذا الإحساس الفظيع فيرى كل مظهر من مظاهر الحياة، خارج حدوده، عبارة عن وهم كبير، وما أخطر الإحساس!
الفقر أولى بالمحاربة من كل مصيبة؛ لأنه سبب كبير في خلق هذه الأوضاع البائسة، ولا يصح أن ينسى الناس أنهم إخوة من الأصل، ويمعنوا في النسيان، فتتخلى الشجرة العائلية عن بعض فروعها تاركة إياها لضياع يفضي بها، ضمن ما يفضي، إلى مواطن العدم.
لا بد من إحصاء سريع لمن يعيشون في المقابر، ولا بد من بحث قضاياهم بدقة، وحل مشكلاتهم المتراكمة بمنتهى الجدية والإخلاص، وليتنا لا نتقاعس عن هذه المهمة الإنسانية الضرورية.