رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التصدع الإسرائيلى.. ومآلات الصورة الزاهية

أحدث شريحة إسرائيلية دخلت على خط الاحتجاجات الداخلية، هى مجموعة من «كبار علماء الذرة»، كما سمتهم وسائل الإعلام الإسرائيلية، هددوا بالانسحاب من مناصبهم، احتجاجًا على إقرار الكنيست التعديلات القضائية الأخيرة. لم يطرح الأمر كقرار جماعى سيخرج باسمهم، إنما هناك مجموعة من عشرة علماء خبراء نويين بالفعل باعتبارهم مسئولين عن تطوير القدرات النووية الإسرائيلية، حسب مناصبهم التى يشغلونها، حيث دار حديث بينهم مؤخرًا حول ما إذا كان من الصواب، استمرارهم فى تلك المناصب داخل إدارة الدولة الإسرائيلية الحالية أم لا.
فى تعبير لافت ودال؛ ذكر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فى تعليقه على الأحداث الداخلية، التى تصاعدت بشدة بعد تمرير الجزء الأول من التعديلات القضائية التى يتبناها ائتلافه الحاكم، حين قال نصًا: «أمد يدى فى دعوة للسلام والاحترام المتبادل بيننا، دعونا نتوصل إلى اتفاقات»، وهو هنا لا يتحدث للفلسطينيين، كما يبدو للوهلة الأولى من الصياغات، بل إلى داخل المجتمع الإسرائيلى وللقوى السياسية المعارضة. وهذا يعكس جدية حالة الانقسام التى ضربت الداخل الإسرائيلى، وحجم الهزة العميقة التى بات المجتمع أسيرًا لها فيما اندفعت الفوضى ككرة الثلج التى تكبر كل يوم. للمرة الأولى على سبيل المثال، تجمع عشرات الآلاف خارج الكنيست ابتداء من صباح يوم التصويت بينما كانت الحكومة تستعد لتمرير ما سمته بـ«قانون المعقولية»، ظل تدفق المتظاهرين إلى الطرق المحيطة بالكنيست، وحرص الجميع على الإمساك بأيدى بعضهم البعض لمنع ضباط حرس الحدود من إخلائهم. هذا تسبب فى اشتباكات عنيفة عندما اضطرت الشرطة لاستخدام خراطيم المياه، لإخلاء المتظاهرين من الطرق المؤدية، وخلق حالة عبر عنها النواب بالداخل أنهم تحت حالة «حصار»، وتزيد البعض منهم وتحدث لوسائل الإعلام، واصفًا المشهد على غرار هجوم يناير ضد مبنى الكابيتول فى الولايات المتحدة.

من مظاهر الانقسام الحاد وحالة الفوضى التى تحاصر هى فعليا الحكومة الحالية، أبرزها شهدته مدينة تل أبيب، حيث تجمع حوالى «15000 شخص» فى شارع كابلان بالقرب من مقر الجيش الإسرائيلى فى البداية، قبل أن يبدأ المتظاهرون فى التدفق نحو طريق أيالون السريع لإغلاقه. أشعل النشطاء النيران فى طرق كابلان وأيالون فى الوقت الذى كان الهم الرئيسى لقوات الشرطة فتح الطرق السريعة، بعد أن أصبحت عمليات إغلاق الطرق ظاهرة متكررة مع تصاعد الاحتجاجات، مثلما جرى بعد التصويت فى خروج المتظاهرين إلى شوارع القدس الغربية، وأغلقوا طريق بيجن السريع وهو الطريق السريع الوحيد فى المدينة لمدة ثلاث ساعات، قبل توجههم للتظاهر خارج المحكمة العليا. حالة إغلاقات الطرق لم تقتصر على تل أبيب والقدس فقط، بل امتدت إلى مناطق عدة فى حيفا ورعنانا وأماكن أخرى ليصبح الأمر أقرب لتسمية الأمن لها بـ«الظاهرة المتكررة»، وخطورتها أن أثرها الذى يشل الحياة العامة فى تلك المدن ومحيطها، يتسبب فى امتداد أثر الأحداث الصاخبة إلى مدى أبعد كثيرًا من مواقع الاحتجاجات. هذا تسبب فى الحالة العصبية التى انتابت قوات الأمن ودفعها لتصعيد آليات المواجهة مع التظاهرات واستهداف المشاركين فيها، مؤخرًا استبدلت المواجهة بخراطيم المياه الاعتيادية برش المواد الكيميائية ذات الروائح الكريهة، فضلًا عن القوة المفرطة ضد قيادات تلك الاحتجاجات وعناصر الإعلام بالخصوص. الاشتباكات المتبادلة؛ أسفرت عن إصابات فى صفوف رجال الشرطة تجاوزت 15 شرطيًا فى تل أبيب والقدس وحدهما، بعد لجوء المتظاهرين إلى استخدام الزجاجات المملوءة بالرمال كسلاح لمقاومة عنف الشرطة ضدهم.

المعارضة الإسرائيلية التى منيت بالهزيمة داخل تصويت الكنيست، وهناك عدد من أعضائها آثر الانسحاب من الجلسة مسجلًا موقفًا سياسيًا، اعتبروه كاشفًا لحجم التدليس الذى يمارسه الائتلاف الحاكم. الوزير بن غفير وصف النجاح فى التصويت ب«مجرد البداية» وهو يخطط مع أعضاء الحكومة لما بعده بالتأكيد، فيما ترى المعارضة أن إزالة معيار «المعقولية» يفتح الباب على مصرعيه، أمام حالات الفساد والتعيينات غير اللائقة للمقربين وأعضاء أحزاب بعينها، حيث يظل معظمهم غير مؤهلين لشغل المناصب المهمة. ويستشهد أصحاب هذا الطرح بنموذج كاشف يتردد على نحو واسع، عندما ألغت المحكمة العليا هذا العام تعيين رئيس الحكومة لرئيس حزب شاس «آرييه درعى» وزيرًا للداخلية والمالية، معتبرة أن التعيين «غير معقول» بسبب إدانته السابقة بمخالفات ضريبية. لهذا اعتبر يائير لبيد يوم التصويت «يومًا حزينًا» وهزيمة كاملة للديمقراطية الإسرائيلية، كما شاركه بينى غانتس، رئيس حزب «الوحدة الوطنية» المعارض، الذى صرح بأنه ربما نكون قد خسرنا معركة لكننا سننتصر فى الحرب.
هذه التعبيرات السياسية التصعيدية ليست بها مبالغات، بالنظر إلى ما يجرى على الأرض ولحجم ردود الأفعال والتقييمات السلبية العديدة للأمر. ربما فى زاوية جديدة وغير متوقعة؛ أعلنت عديد المؤسسات المالية الأمريكية الكبرى عن تقديرات صادمة لها علاقة بالواقع الاقتصادى والمالى لإسرائيل. فقد خفض بنك الاستثمار الأمريكى الشهير «مورجان ستانلى» يوم الثلاثاء الماضى الائتمان السيادى لإسرائيل إلى «مكانة سلبية»، مشيرًا فى حيثياته إلى زيادة «عدم اليقين» بشأن التوقعات الاقتصادية للأشهر المقبلة. فى ذات التوقيت تقريبًا أصدر بنك «سيتى» الأمريكى هو الآخر، مذكرة عاجلة لعملائه المؤسسيين جاء فيها أن البيئة فى إسرائيل «أكثر خطورة»، بعد أن أقرت الحكومة مشروع قانون يمنع المحاكم من ممارسة المراجعة القضائية بشأن معقولية قراراتها، ونصح فيها المستثمرين بشكل مباشر تجنب الاستثمار داخل إسرائيل حتى استقرار الأوضاع. فى الوقت الذى جاءت تلك التقديرات الأمريكية مفاجئة على نحو ما، كانت هناك هواجس تتنامى منذ أشهر داخل أروقة وكالات التصنيف الائتمانى الأخرى، «ستاندرد آند بورز» حذرت من تدهور الحكم فى إسرائيل وإضعاف محتمل للسلطة القضائية والقوة المؤسسية فى البلاد، وأثارت مخاوف عدة بشأن التوترات الاجتماعية والسياسية المحلية المتزايدة. وفى ذات السياق أصدرت وكالة «موديز» فى أبريل الماضى تقريرًا يحذر من أن التصنيفات الائتمانية لإسرائيل ستتعرض لـ«ضغط هبوطى» إذا تحولت التوترات الداخلية إلى أزمة سياسية واجتماعية طويلة الأمد.
هذا التقدير الأخير لـ«موديز» صدر فى أبريل من هذا العام، ويحذر فيه من طول الأمد، الذى طال بالفعل ليصل إلى شهر أغسطس متجاوزًا الأربعة أشهر من التصعيد والشروخ التى باتت أعمق مما تصورته الحكومة الإسرائيلية، ومما يحاول الائتلاف أن يسوقه داخليًا وخارجيًا. حتى باتت معها الصورة الزاهية التى تحاول تصديرها طوال الوقت محل شك واسع حتى لأقرب حلفائها، واشنطن أكثر قلقًا وغضبًا مما تحاول هى الأخرى أن تبديه فى مواجهة ما يجرى، وتستشعر الخطر الحقيقى الذى تواجهه الدولة الإسرائيلية فى صلب ما يقوم عليه مشروعها.