رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا أصبح "ميلان كونديرا" من المغضوب عليهم؟.. أشرف الصباغ يُجيب

ميلان كونديرا
ميلان كونديرا

تحدث الكاتب الدكتور أشرف الصباغ، عن ميلان كونديرا الذي رحل عن عالمنا أمس بعد مسيرة طويلة مع الكتابة والترشح للجوائز وحياة حافلة بالنضال والمقاومة.

يقول أشرف الصباغ: "رحل الكاتب الفرنسي (من أصل تشيكي) ميلان كونديرا عن 94 عاما بعد أن ملأ العالم بالضحك والفلسفة والنقد والتفكيك، وترك لنا ميراثا ثقيلا في عالم يضج بأشباه الكائنات. رحل "الكائن الذي لا تحتمل خفته". ذلك الكائن المثير للمشاكل والشكوك وهادم الأفكار التقليدية والعقل السكوني، الذي فضح النخب بوجهيها السياسي والإعلامي وفضح الأيديولوجيات، من الرأسمالية إلى الاشتراكية إلى النازية، حيث اعتمد مبدأ الفضح القائم على السخرية والمقابلات الدرامية الفجة والوقحة. 

ويضيف لـ"الدستور": "رحل كونديرا (1929- 2023) وترك لنا تميمته الخالدة: "أدركنا مُنذ زمن طويل أنّه لم يعُد بالإمكان قلبُ هذا العالم، ولا تغيِيرُه إلى الأفضل، ولا إيقافُ جريانِه البائس إلى الأمام. لم يكُن ثمّة سِوى مُقاومةٍ وحِيدة مُمكنة: ألّا نأخُذه على محمل الجِد". وكان بين الكتّاب النادرين الذين أُدرجت مؤلفاتهم وهم بعد على قيد الحياة في مجموعة La Pleiade ("لابلياد") المرموقة في 2011. وفي الحقيقة، كانت شهرة كونديرا قد بدأت في العالم الأوروبي، عام 1968، عندما صدرت رواية "المزحة" في الترجمة الفرنسية بتزكية من الشاعر الفرنسي لويس أراجون الذي قال عنها آنذاك: "ها هي الرواية التي أرى أنها عملا فنيا بارعا".

ويكمل: "بعد ربيع براغ عام 1968 ودخول الدبابات السوفيتية إلى بلاده، أصبح كونديرا من المغضوب عليهم، فغادرها إلى فرنسا عام 1975 مع زوجته فيرا. وسحبت منه الجنسية التشيكوسلوفاكية عام 1979، وحصل على الجنسية الفرنسية عام 1981. وفي عام 2019 فقط أعيدت إليه الجنسية التشيكية، عندما زاره سفير جمهورية التشيك في فرنسا، في بيته بباريس، واعتذر له عن "الماضي"، وعن انحطاط الروح الشمولية وتدمير الإنسان باسم الشعارات والأيديولوجية والتطرف. والمدهش إن لا تشيكوسلوفاكيا موجودة، ولا الاتحاد السوفيتي موجود. اختفى البلدان وبقى كونديرا بعدهما بسنوات طويلة يبدع ويمنح الإنسانية جانبا من خلاصة معنى الوجود الإنساني. 

ويواصل: "ظلوا ينظرون إلى أعمال كونديرا في الاتحاد السوفيتي بعين الشك لدرجة أنها بقيت ممنوعة حتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت أعمال كونديرا مترجمة إلى الروسية. واتضح أنها تتمتع باحترام وتقدير كبيرين لدى أطياف واسعة من النخب الروسية التي كانت تدرك عمق المأساة، ولكنها لا تستطيع الكلام. وتوالت ترجمة أعماله في مجلة "الأدب الأجنبي"، ثم بدأت تظهر في طبعات مختلفة أدهش القارئ الروسي العادي من جهة، ولفت أنظار النقاد وباحثي الأدب. 

ويتابع: "تقول الناقدة والباحثة الروسية سفيتلانا شيرلايموفا إن موضوع أول روايات كونديرا "المزحة"- وهي واحدة من أروع الأعمال السردية في النثر التشيكي الساخر في حقبة الستينات- قد نشأ على وجه التقريب من نكتة سوداوية، ولكنه امتلك صبغة سياسية حيوية، وتضمن إعادة تقويم نقدي في نغمة أخلاقية يطلق عليها "مرحلة بناء أسس الاشتراكية" في تشيكوسلوفاكيا. تلك الرواية التي تُرجِمَتْ في روسيا عام 1990- في عصر مختلف تماما- لم تترك ذلك الانطباع الخاص والمميز بجرأتها. ولكن في أول صدور لها في تشيكوسلوفاكيا كانت بمثابة تجديد حقيقي تجسدت فيه قسوة النظام الشيوعي في علاقته حتى بالمواطنين الموالين له على وجه الخصوص.

ظهرت "المزحة" في ظروف الحركة السياسية- الاجتماعية التي كانت تتنامى بشكل عاصف في البلاد من أجل "أنسنة" الاشتراكية، ومن أجل حرية الطباعة والنشر، والحقوق الفردية. ولعب الأدب ومنظمات الكُتَّاب دور نشط في هذه الحركة. وكان كونديرا في صفوف قيادة اتحاد كتاب تشيكوسلوفاكيا على الرغم من أنه لم يكن يشغل أحد المراكز العليا. وعموما فقد كانت علاقات كونديرا بالسياسة عبارة عن علاقات خاصة وفريدة من نوعها. إذ التحق بصفوف الحزب وهو ما يزال صبيا بعد- عام 1948. ولكنه في عام 1950 طُرِدَ بسبب خطأ طلابي اعتبروه سلوكا لا حزبيا. وعلى العكس من بطل "المزحة" ليودفيك، استطاع كونديرا مواصلة تعليمه. وفقط أُعيد إلى الحزب الشيوعي التشيكي في عام 1956 من أجل أن يُطرَد بشكل نهائي منه أثناء فترة التطهير عام 1970. 

وتبعا لرأى كونديرا، فقد ساهمت الستالينية في عزل الأدب التشيكي عن العالم، وانحدرت به إلى مستوى الشعارات الفارغة. وفقط في الستينات بدأ اجتياز هذه الحالة. وذهب إلى أن "الشعوب الصغيرة في تلك الظروف لا تستطيع حماية لغتها والحفاظ على ذاتها إلا بالقيمة الثقافية للغتها دون أن تستبدل القيم المبنية عليها". ولذلك "فكل من يقطع أوصال التطور الثقافي المستقبلي بالتقتير وإعلاء التفاهات والتخريب والأمية الثقافية وتقييد حرية الفكر، هو بذلك يمزق أوصال وجود شعبنــا ذاته". 

ميلان كونديرا