رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سباق المناورات فى بحار الصين وجوارها

اختارت بكين أن تجرى مناوراتها البحرية الأحدث، فى وقت متزامن مع انعقاد قمة «حلف الناتو» فى ليتوانيا، بحيث تبدأ فى ١٠ يوليو الجارى وتستمر إلى ١٤ الشهر نفسه. كما أعلنت الصين عن أنها ستشهد مشاركة واسعة لقطعها البحرية المتطورة وستجرى بالذخيرة الحية، واختيرت مياه «خليج بوهاى» الواقع شمال شرق الصين كى تكون مسرحًا لتنفيذ التمرينات العسكرية. هذه المناورات الصينية التى يكاد لا يخلو شهر منها، بدأت تمثل «أداة رد» تستخدمها بكين إزاء كل ما تعتبره مهددًا لصيغة «الاستقرار الأمنى»، المعتمد لديها، والذى تحاول فرضه وترسيخه فى مجالها الحيوى الذى لا يخلو من هواجس وإشكاليات.

بداية هذا الشهر أكد الرئيس الصينى شى جين بينج أمام قمة منظمة شنغهاى أن بلده يسعى إلى «حفظ السلام الإقليمى»، معلنًا عن أن تحقيق هذا السلام مسئولية مشتركة لبلدان الإقليم، عليها أن تعمل معًا لتحقيقه على المدى الطويل. هذا الخطاب يحمل نبرة سلام هادئة تستخدمها الصين عادة فى المحافل الدولية والإقليمية، فيما يسير جنبًا إلى جنب معها تنامى غير مسبوق فى رفع كفاءة وجاهزية قواتها العسكرية، وكما يبدو تمثل المناورات العسكرية أبرز الأدوات التى تستخدمها من أجل تحقيق ذلك، آخرها المناورة المتطورة التى جرت أبريل الماضى، وتضمنت «محاكاة» لفرض حالة تطويق كامل لجزيرة تايوان. وفيها شاركت وحدات من القوات البحرية الصينية وأسراب من سلاح الجو، فى عمليات مشتركة للتدريب على عمليات عزل الجزيرة عن محيطها الإقليمى، واللافت أنها جاءت حينها ردًا على زيارة رئيسة تايوان تساى إينج وين الولايات المتحدة. خرج البيان الصينى حينها ليوجه انتقادات قاسية لكلا الطرفين، حين ذكر أن ما يوصف بـ«رحلة ترانزيت»، هو فى الواقع استفزاز كبير بمحاولة الاعتماد على الولايات المتحدة سعيًا للاستقلال.

الجيش الصينى بات اليوم يحتل المرتبة الثالثة عالميًا، بالمقارنة مع جيوش ١٤٥ دولة فى العالم، لكن الأهم أن قواته البحرية صنفت الأولى عالميًا فى عام ٢٠٢٣. موقع «جلوبال فاير بور» الأمريكى مهتم بهذا الأمر بالطبع، لذلك أصدر إحصائية مؤخرًا جاء فيها أن سفن الدوريات البحرية تمثل أكبر جزء من حجم الأسطول الصينى، حيث تقدر بنحو ٣٥٪ من قواته، تليها الغواصات التى تمثل ١٨٪ ثم قوة الكورفيتات التى تبلغ ١٧٪. الغواصات على وجه الخصوص التى تمثل تلك النسبة تملك منها الصين «٧٨ غواصة»، تضعها فى المرتبة الأولى عالميًا فى هذا السلاح، ومثلها الفرقاطات التى تعد أيضًا أضخم قوة فى العالم بعدد «٤٣ فرقاطة». وعلى مستوى القطع التى تضم أسلحة مشتركة تمتلك الصين حاملتى طائرات، وثلاث حاملات مروحيات تجعلها فى المرتبة الثالثة عالميًا، فيما لديها ثانى أضخم قوة مدمرات فى العالم «٥٠ مدمرة». وبالنظر للحرص الصينى على أن يحتل أسطوله البحرى هذه المكانة المتقدمة، وهو الأضخم بالفعل «٧٣٠ قطعة بحرية» متنوعة، هذا يعكس حجم الشواغل والاهتمام الصينى بترسيخ تفوقه الكاسح فى إقليم يتنازعه التنافس والتحالفات.

المناورات الجديدة الجارية الآن، تشهد للمرة الثانية فى شهرين متتاليين مشاركة روسية، بعد مشاركة موسكو الصين فى التدريبات الجوية التى جرت فى السادس من يونيو الماضى. هذه المرة كون المناورة بحرية تخصصية، فقد شارك الجيش الروسى بالفرقاطتين «جروميكى» و«سوفيرشينى»، اللتين تنتميان إلى أسطول المحيط الهادى الروسى، الذى يقع مركزه الرئيسى بمدينة «فلاديفوستوك»، التى تعد أكبر ميناء فى الشرق الأقصى الروسى. فى ظل حالة التنافس والحرص على إنفاذ الرسائل الدالة المتبادلة بين كل الأطراف، كان هناك تعمد روسى فى إبحار الفرقاطتين فى مضيق تايوان بالقرب من جزيرة «أوكيناوا» اليابانية، وهو ما استلزم استنفارًا عسكريًا فى كل من تايبيه وطوكيو، قبل أن تعلن السلطات الصينية استقبالهما فى أحد الموانئ البحرية بمنطقة شنغهاى. هذا يعكس بالطبع مستوى عاليًا من التنسيق العسكرى بين الصين وروسيا، وحرصهما على التأكيد على ذلك طوال الوقت وبأساليب وأنماط متنوعة، تعزز درجة التفاعل الاستراتيجى العسكرى بين الدولتين.

هذه المنطقة الجغرافية ومجالها الحيوى باتت على صفيح ساخن من الأحداث والتفاعلات، تدفع لحالة استنفار عسكرى متنام لكل الأطراف يعظم من هواجس وقوع انفلات مفاجئ غير محسوب. أحدث تجليات هذا التسارع شهدته سماء كوريا الشمالية فى تجربة إطلاق صاروخ بالستى عابر للقارات، تم إطلاقه على مسار معلق بلغ ارتفاعه «٦٠٠٠ كم» وامتد مداه لمسافة «١٠٠٠ كم». المراقبون وخبراء الدول المعنية، وبالأخص اليابان أشاروا إلى أن تجربة الإطلاق تلك، حطمت العديد من الأرقام القياسية كونها تعد الأطول لرحلة صاروخية من هذا النوع. رحلة الصاروخ الكورى الشمالى استغرقت ٧٤ دقيقة، وهى الأطول زمنيًا بالفعل، من إحدى عشرة تجربة إطلاق سابقة شهدها النصف الأول من هذا العام وحده، فيما قامت بيونج يانج بإجراء «٣٧ إطلاقًا صاروخيًا» مشابهًا فى عام ٢٠٢٢. بعد انقضاء تلك المدة الزمنية الاستثنائية سقط الصاروخ الكورى خارج المنطقة الاقتصادية الحصرية لليابان فى بحر اليابان، على مسافة نحو ٢٥٠ كيلومترًا غرب جزيرة أوكوسيرى فى «هوكايدو». لتسارع طوكيو فى تقديم احتجاج شديد اللهجة عبر القنوات الدبلوماسية الصينية، معتبرة استمرار إطلاق كوريا الشمالية الصواريخ بما فى ذلك الصواريخ الباليستية، وغيرها من الأعمال ذات الصلة، تشكل تهديدًا للسلام والأمن فى اليابان والمنطقة والمجتمع الدولى، وأنها غير مقبولة.

تزامن الإطلاق الكورى الشمالى لتلك التجربة الصاروخية اللافتة مع المناورة العسكرية الصينية الروسية المشتركة يكشف نمطًا من الاصطفاف غير الآمن، فهناك ضغوط خطيرة تمارس على مصالح المحاور الموجودة بهذا النطاق الجغرافـى، وربما فتحت الحرب الروسية الأوكرانية هذه الضغوط على مزيد من الأخطار. فليس ببعيد عن ذلك التصعيد مصالح راسخة للولايات المتحدة وبعض من شركائها، لن تتخلف كثيرًا عن هذه الأنماط من التصعيد والتلويح باستخدام القوة العسكرية، أو بالأقل رفع جاهزيتها لمواجهات يشوبها غموض كبير، حتى وإن باتت أقرب من أى وقت مضى.