رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلهم يريدون الجوائز.. ولا أحد يريد أن يكتب

لا أعرف إلى متى ستظل تلاحقنى تلك الحالة الغريبة التى كثيرًا ما أجدها تحاصرنى، ولا يمكننى التخلص منها أو من تداعياتها، خصوصًا أننى بعد كل هذه السنوات من الحياة والتجول بين مقاهى المثقفين ومنتدياتهم، لا يجوز أن تأخذنى ولو مجرد الدهشة من حالة البؤس التى تنتاب النخبة المثقفة، وتكشف عن نفسها بقوة، من وقت لآخر، تلك الحالة التى صرت أعرفها، وأعرف مساراتها، مسبباتها ونتائجها، وبداياتها ونهاياتها أيضًا، ولا أعرف لماذا كلما بدأت تلك الحالة أتذكر المقولة الشهيرة: «كلهم يريدون دخول الجنة، لكن لا أحد يريد أن يموت».

الحقيقة أن هذه المقولة هى التعبير الأصح والأقوى، فى تصورى، عن تلك الحالة الغريبة التى تنتاب جموع الكاتبات والكتّاب كلما فاز أحدهم بجائزة، أو ظهرت صورته على غلاف إحدى المجلات الثقافية، ولو كانت مجرد مطبوعة تزيد «أعداد» كتابها على «عدد» قرائها، فالجميع يريدون صورهم على أغلفة المجلات المتخصصة، يريدون الفوز بجوائز الدولة، وجوائز الهيئات والمؤسسات ورجال الأعمال، وشهادات التقدير «من أى حد»، يفرحون بها، ويهنئون بعضهم عليها، ويملأون بها حوائط منازلهم، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعى، لكن لا أحد يريد أن يتفرغ لكتابة حلمه، أو ترجمة تصوراته وأفكاره إلى إبداع يمكنه، وحده، أن يفتح له كل الطرق، إلى الجوائز والأغلفة والندوات وحفلات التتويج.. لا أحد يريد أن تكون الكتابة والإبداع هما كل همه، وكل أحلامه، ومنجزه.

والحقيقة أننى قرأت رواية واحدة للكاتب الشاب أحمد مراد، ولم أجد فيها ما يشجعنى على قراءة إنتاجه مرة أخرى، ليس لعيبٍ فى كتابته، أو طريقته فى التعبير عن آرائه أو مواقفه، أو طريقة تناوله، ولكن لاختلاف ما يكتبه عما يروق لى، ويجذبنى إليه من أدب، فهو يكتب لجمهور مختلف، بذائقة مختلفة، ومواصفات لا أجدها فى نفسى.. وهو جمهور حقيقى وفاعل ومؤثر، فهذا الجمهور هو من منحه جائزة الدولة، وهو من أفرد له غلاف إحدى المجلات المتخصصة، وأجلسه فى صدارة استديوهات التصوير ليتحدث عن نفسه، وعن رحلته مع الأدب، وإن لم تعجب كلماته وطريقته فى التعبير الآخرين.. لكن هذه هى طبيعة الفنون فى كل زمان ومكان، وهذه هى الطبيعة البشرية، وسُنة الله فى خلقه منذ بداية الخلق، وستظل هكذا حتى يرث الله الأرض.

لم تكن كتابات نجيب محفوظ تشبه ما يكتبه يوسف السباعى ولا إحسان عبدالقدوس، ولم يكن أى منهم يتماس مع يوسف إدريس فيما ذهب إليه من مناطق وأساليب للكتابة التى كان يحلم بها، ويريدها، ولم يقترب أحدهم من المساحات التى انفرد بها صبرى موسى فى التجريب وارتياد آفاق جديدة للكتابة الأدبية، سواء فى القصة القصيرة أو الرواية أو أدب الرحلات، ولم يستطع أى منهم أن يملأ صفحات كتبه بالروائح والأشواق والأسى كما فعل عبدالحكيم قاسم، ورغم ذلك لم تتحول تلك الاختلافات الجذرية العميقة فى تصوراتهم لماهية الأدب إلى حفلات للسباب الجماعى، والانتقاص والتقليل من الآخرين كما يحدث فى أيامنا البائسة هذه.. هذه الأيام التى لم يسلم منها كل الذين ذكرتهم، وإن كنت أشك فى أن أحدًا ممن يتصدرون حفلات السباب تلك قد قرأ لهم، أو جرب الاستمتاع بما خطته أيديهم.. ربما يكون قد قرأ عنهم، أو سمع بهم، أو وصلت إليه عنهم بعض الحكايات التى تضج منها المقاهى والبارات وأماكن التجمعات والندوات، لكننى على يقين من أنه لو قرأ لهم، لما وجد الوقت و«الدماغ» اللازمين للدخول فى تلك الحفلات الرخيصة غير المجدية بأى حالٍ من الأحوال.. وربما أذكر الآن ما كتبته فى هذه المساحة عن تجاوزات البعض فى حق أديب مصر الأكبر نجيب محفوظ، ولكن هذا ليس موضوعنا الآن.. لنعد إلى أحمد مراد، والحقيقة، أيضًا، أننى كما لم تجذبنى كتاباته، «ومعه عدد كثير من شباب الكتّاب الذين يتصدرون حفلات الهجوم عليه الآن»، لم أجد أى مبرر لحالة الاستنفار التى تنتاب «محترفى» الكتابة كلما ظهر اسمه، أو ذكره أحدهم، فالرجل كما بدا لى من اللقطات القصيرة التى شاهدتها فى حواره مع الإعلامى الكبير معتز الدمرداش، متسق تمامًا مع نفسه، لا يدّعى بطولة، ولا يرهق نفسه «بحزق ثقافى فخيم» لا يُسمن ولا يُغنى من جوع.

الحقيقة أننى رأيت شخصًا يتحدث عن تجربته بسلاسة وصدق، تتفق أو تختلف معها.. براحتك، لكنها تجربة جعلت من اسمه، شئت أم أبيت، ملء السمع والأبصار.. وتحدث عنها بكل أمانة، فلم يدع شيئًا ليس فيه، ولم يقلل من منجز أحد، ولم يصارع أحدًا على شىء.

فى أماكن أخرى من العالم، يناقش الأدب والأدباء ما شاءوا من أفكار، وينبشون الأرض بحثًا عن تصورات لماهية الروح، وعلاقتها بالجسد، عن رحلة الإنسان فى متاهات الوجود، بما فيها الوجود الاجتماعى والثقافى والاقتصادى والسياسى، عن تجليات ما تلوكه البشرية طوال تاريخها من مسميات لا تستطيع القبض عليها.. وتحلق الكتابة بعيدًا عن السائد من تصورات، فتبتكر ما يناسبها من أساليب فى الكتابة والتصوير، ولا تتورط فى مثل تلك المعارك الصغيرة التافهة التى لا تليق بنخبة مثقفة، قارئة، تطارد المعرفة، وتبحث عن معنى لوجودها.

ليكتب مراد ما يحب، وليقرأه ويتابعه جمهوره ومحبوه، ولتكتبوا ما لديكم.. وليدعو أحدكم الله أن يتوب علىَّ من تلك الحالة التى تنتابنى كلما طفت على السطح واحدة من مساوئ النخبة الثقافية العربية، لعله يصادف ساعة إجابة.