رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحتفل به الروم الأرثوذكس .. من هو القديس أمبروسيوس؟

كنيسة الروم الارثوذكس
كنيسة الروم الارثوذكس

تحتفل كنيسة الروم الأرثوذكس بذكرى القديس أمبروسيوس الذي من دير أوبتينو، وبهذه المناسبة ترجم النشرة التعريفية الخاصة بها عن اللغة الفرنسية راهبات دير مار يعقوب، وجاء بها أنه أبصر ألكسندر ميخايلوفيش غرينكوف (أي القدّيس أمبروسيوس) النّور في منطقة تامبوف الرّوسيّة، في 23 نوفمبر من عام 1812م أي يوم عيد القدّيس ألكسندر نيفسكي فدُعي باسمه. كان السّادس بين ثمانية أخوة.

 ترعرع في عائلة متوسّطة الحال كثيرة الأولاد، تنتمي إلى الطّبقة الكهنوتيّة القرويّة المتميّزة بتقواها الصّادقة وتربيتها الحازمة، فجدُّه ألكسندر كان كاهناً، ووالده ميخائيل قندلفتاً، وأمّا أمّه مرتا، فقد كانت "إمرأة قدّيسة تحيا حياة التّقوى" كما وصفها هو نفسه فيما بعد. تلقّى الأولاد دراستهم الابتدائيّة في المنزل، في الثّانية عشرة من عمره أدخله والده في مدرسة القرية التي كانت تفتقر إلى الوسائل العلميّة. عام 1830م انتُخب ألكسندر كأحد أفضل وأبرز تلامذة المدرسة ليدخل مدرسة اللاهوت في تامبوف. وتخرّج من معهد تامبوف اللاهوتي عام 1836م.

قبيل نهاية دراسته، وقبل دخوله الدّير، عرف ألكسندر أوقاتاً صعبة حرجة، عانى خلالها الكثير من التّخبط والصّراع الدّاخلي (1836-1839م)، فهو لم ينوِ أبداً التزام الحياة الرّهبانيّة. ولكنّه عندما مرض مرّة مرضاً خطيراً، صلّى بحرارة واعداً الله أن يصبح راهباً إن شُفي من مرضه. ولمّا تمّ له ما أراد، أخذ يتلكّأ بتنفيذ وعده محاولاً تركه طيّ النّسيان.

وقف ألكسندر أمام خيارين بعد انتهائه من دراسته اللاهوتيّة: إمّا أن يتابع دراسته الأكاديميّة أو أن يتزوّج ليصبح كاهن الرّعيّة. لم يلتزم ألكسندر أحد الطّريقين بل اكتفى بالعمل في إحدى المدارس. 

وفي إحدى المرّات، وهو يسير على طول نهر فورونيج حيث اعتاد أن يتنزّه مناجياً خالقه بحريّة، سمع صوتاً وكأنّه صادر من النّهر ينشد ويقول: ”أعطِ مجداً لله. احفظْ ذكراه دائما في قلبك“. 

اعترى ألكسندر ذهول كبير لهذا "الظّهور" كما عبّر هو فيما بعد قائلاً: "لقد بقيت هناك طويلاً أصغي إلى الصّوت الإلهي السرّي مبهوتاً".

حان صيف 1839م فاختار ألكسندر أن يمضي عطلته في أملاك إحدى أصدقائه وزميله في الدّراسة، قرّر الصّديقان الذّهاب إلى أحد النّساك المدعو إيلاريون ليطلبا نصحه حول تحديد مستقبليهما. فعند سؤال ألكسندر النّاسك: "ماذا أفعل في حياتي؟". أجابه القدّيس وبصوت قوي: "إذهب إلى أوبتينو". ثم أضاف: "إنّهم بحاجة إليك هناك". لم يتبع ألكسندر إرشاد النّاسك توّاً، بل عاد إلى حياته اليوميّة وإلى الخروج ثانية مع الرّفاق، غير أنه سرعان ما شعر بالاشمئزاز من نفسه سيّما وأن ضميره لم يتوقّف لحظة عن تأنيبه. فقرّر السّير إلى أوبتينو.

يقع دير أوبتينو على بعد 3 كم من مدينة كوزيلسك القريبة من موسكو. وصل ألكسندر إلى دير أوبتينو في 8 نوفمبر عام 1839م. وعندما طلب إرشاد أحد الشّيوخ، قيد إلى الشّيخ ليونيد وكان رجلاً ضخماً حازماً وبسيطاً في الوقت نفسه، يعيش حياة قشفة، إذ لم يكن يهتمّ بالزوّار، ليتفرّغ تماماً إلى حياة العزلة والصّلاة. قَبِلَ الأب ليونيد ألكسندر كراهب في الدّير، بعد أن حلّ مشكلته مع المدرسة، ولكنّه لم يلبسه فوراً الثّياب الرّهبانيّة.

في  أبريل من عام 1840م، وبعد مشاورة الأب موسى، قُبل ألكسندر في الدّير نهائيّاً. وبعد فترة وجيزة أُعطي الثّياب الرّهبانيّة. وفي أكتوبر من العام نفسه، انتقل من الدّير حيث الحياة المشتركة إلى الإسقيط حيث حياة العزلة والصّمت والهدوء والتّوحد أكثر تحقيقاً.

بعد مرور ثلاث سنين فقط على دخوله الدّير، توشّح بالاسكيم الصّغير ودُعي أمبروسيوس تيمّناً باسم القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان، وكان له من العمر آنذاك ثلاثون سنة. سيم شمّاساً ثم كاهناً في نهاية عام 1845م.

في شهر  أغسطس من عام 1846م، أوكل إليه نيقولا مطران كالوغا مهمّة مساعدة الأب مكاريوس، خلف الأب ليونيد، في الإرشاد الرّوحي. وهكذا وفي سن الرّابعة والثّلاثين عُرف الأب أمبروسيوس كأحد شيوخ أوبتينو، ولكنّه لم يستطع أيضاً القيام بمهمّته هذه، إذ مرض مرضاً عضالاً في معدته وأمعائه حتى شارف على الموت، وكان دائماً يردّد إن الله وهبه هذا المرض لتقدّمه الرّوحي.

وبعد مرور السّنتين، أي في عام 1848م، بدأت صحّته تتحسّن بشكل ملحوظ، إذ أصبح يستطيع التّحرك والتّنقل من مكان لآخر. فعاود نسكه وصومه القاسي رغم هزاله.

عد رقاد الأب مكاريوس في 7  سبتمبر من عام1860م انتقلت السّلطة الرّوحيّة إلى الأب أمبروسيوس وكان قد بلغ 48 سنة فقط. وعُرف الأب أمبروسيوس كستارتز لدير أوبتينو في كلّ روسيّا.

كانت حياة الشّيخ ترتكز بشكل أساسي على المحبّة، لا المحبّة العاطفيّة، بل المستندة على الكتاب المقدّس وعلى التّضحية في سبيل الآخر. هذه المحبّة التي كانت عنوان قداسة الأب أمبروسيوس، وهذا واضح جدّاً في كتاباته: “… إنّي أحسّ بالإنهاك في هذه الأيّام، ومع ذلك يجب أن أستمع إلى حديث الزوّار ولمدّة طويلة أحياناً …”. 

لقد منح الله خادمه نعمة الدّهش الرّوحي وموهبة البصيرة. فالأسرار التي تخفى عن الشّيخ لم يكن لها وجود، إذ كان يقرأ مكنونات النّفس كما في كتاب مفتوح مهما تسلّح الزّائر بالصّمت. وقد عمل الستارتز على إبقاء موهبة البصيرة عنده محجوبة عن الأنظار.كما كان يتمتّع بموهبة شفاء الأمراض، ولكنّه كان يرجع فضل الشّفاء لله لا له، لم يشفِ الستارتز من الأمراض الجسديّة فقط بل حتى من العادات السيئة.

قبل سبع سنوات من رقاد الستارتز، وضع أساساً لأهمّ أعماله أي تأسيس دير نسائي في شاموردينو التي لا تبعد كثيراً عن بريّة أوبتينو. وقد شجّع كثيراً اعتناق الرّهبنة، وأسّس هو نفسه عدّة أديار في مناطق متعدّدة، كان أهمّها بالنّسبة إليه دير شاموردينو. في الأوّل من ديسمبر من عام 1884م بارك أسقف كالوغا فلاديمير الدّير الجديد. 

كان الأب يزور دير شاموردينو، وهو المكان المفضّل لديه، ليرى زرعه قد أنبت إلى أضعاف، قبل أن تأتي عليه الثّورة الشّيوعيّة سنة 1917م. في  يونيو سنة 1890م توجّه إلى الدّير، وكانت هذه هي المرّة الأخيرة التي سيغادر فيها أوبتينو وإلى غير رجعة، إذ ساءت حالته جدّاً ولم يستطع العودة.

كان عام 1891م العام الأخير في حياة الستارتز، راح بكلّ ما أوتي من عزم يسعى لكي يؤسّس الدّير على قواعد راسخة. في هذا العام بالذّات ساءت صحّته كثيراً. في رساله له كتب: "إنّي أتشجّع عندما أتذكّر القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم، النّور المشع للكنيسة الأرثوذكسيّة، الذي كان دائماً مريضاً ولكنّ هذا لم يمنعه مطلقاً من الاهتمام بأعمال الكنيسة، ومن كتابة مقالاته حول الإنجيل وأعمال الرّسل".

لم يقتصر عذاب القدّيس أمبروسيوس على آلام جسده، بل طالته الشّائعات فزادت من عذابه، إذ إنّ صغار النّفوس ممن لم يحظوا بمقابلته، زادوا على تذمّرهم عليه أنّهم نالوا من سمعته مستهجنين إقامته في دير للرّاهبات. ولمّا تعرّض لسؤال مطران كالوغا عن هذا الموضوع أجابه: "إنّ العناية الإلهيّة هي التي قادتني إلى شاموردينو". وعندما عرضوا عليه العودة ثانية إلى أوبتينو أجاب: "لن أصل بل سأموت في الطّريق".

قرّر المطران أن يأتي هو بنفسه لنقل الشّيخ إلى أوبتينو. ولكنّ هذا الأخير عرف بروح النّبوءة أنّ ذلك لن يتمّ، وبأنّ مجيء المطران سيكون لتجنيزه وليس لنقله حيّاً إلى أوبتينو. في اليوم العاشر من شهر  يناير، وهو موعد زيارة أسقف كالوغا، الذي تملّكته دهشة كبيرة عندما علم فور دخوله الدّير بنبأ موت الستارتز، فأردف: "الآن فهمت، لقد دعاني الستارتز إلى إقامة جنازة".

في الخامس عشر من شهر نوفمبر، نُقل الجسد إلى كاتدرائيّة سيّدة قازان، حيث احتفل بالذّبيحة الإلهيّة. بعد ثلاثة أيّام، ورغم الجوّ الخانق بسبب الجماهير المحيطة به، لم يفسد الجسد بل أخذت تنضع منه رائحة طيّبة كتلك التي تفوح عادة من أجساد القدّيسين. 

على مدى عصور طويلة، نال موهبة صنع العجائب وشفاء المرضى كلُّ من اتّبع المعلم بطاعة غير مشروطة. في القرن التّاسع عشر نعمت روسيّا بالعديد من القدّيسين الموهوبين بشفاء المرضى، منهم القدّيس سيرافيم ساروفسكي، والقدّيس يوحنّا كرونستادت وغيرهم. وكذا الستارتز أمبروسيوس.