رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فن إدارة الجمهور.. هكذا لقّن «مدبولى» الزعيم وسعيد صالح درسًا بـ«ريا وسكينة»

قد تجتهد أمام الكاميرا وتعيد حديثك أكثر من مرة لتبدو فى مواجهة الجمهور كما تريد بالضبط، وقد تستعين بأصدقائك أو تلتزم بتوجيهات مخرج ما فى لوكشين ما، ليظهر المشهد كما اتفق صنّاع العمل.. لكن هذا الأمر ليس متاحًا على خشبة المسرح، فأنت أمام الجمهور، وستحصل فورًا على هديتك بالتصفيق أو ستحصل على لعنتك بالسخرية.. حسب الأحوال.
الجميع يدرك أنه لا يمكن توقع رد فعل الجمهور تجاه أداء ما، فالمتغيرات فى هذه المعادلة كثيرة، فحتى لو كنت نجمًا لامعًا فى مكان ما وتحظى بعلاقة جيدة مع الجمهور، فهذا لا يضمن بالطبع أن تحظى بنفس القبول فى مكان آخر.. فيمكن أن تفاجأ كممثل بأن ما تملكه من إيفيهات عظيمة «هاتجيب جاز» مع جمهور مختلف فى بلد مختلف.
وهذا ما أكده الزعيم عادل إمام فى لقاء تليفزيونى، حكى خلاله أنه لاحظ بوضوح مدى اختلاف الجمهور الكويتى، مثلًا، عن الجمهور المصرى.. ما جعل بابا الكوميديا فى الوطن العربى يعانى ليجد إفيهًا مناسبًا لذائقة هذا الجمهور المختلف، وهو إفيه «الخيار» الشهير فى مسرحية «شاهد ماشافش حاجة»، واعتبر الزعيم إضحاك الجمهور فى هذه السهرة تحديًا، وأوضح: «الكوميديا زى الكورة.. فيها حرفنة.. ذنبهم إنهم مايعرفوش عادل إمام».
 

أتفق مع الزعيم فيما يخص ضرورة أن يرصد الممثل خلال العرض المسرحى، مدى تأثر الجمهور بالأداء، فالشعور بالجمهور حاسة إضافية لا يملكها كل الممثلين، لكن هذا لا ينطبق على الكوميديا فقط، بل يمتد لجميع أنواع الدراما.
المنطقى أن يجتهد الممثل، متسلحًا بكل أدواته، لكى يجسد بدقة الشخصية التى كتبها المؤلف، وإن كانت القصة تشترط حدوث موقف تراجيدى ما، فسيكون من الخطأ، بالتأكيد، أن يضحك الجمهور فى هذه اللحظة.
إنْ ضحك الجمهور فى مشهد تراجيدى فى مسرحية ما، فهذا قد لا يكون خطأ الممثل، فكما أشرنا سابقًا، تلعب الصدفة دورًا كبيرًا فى المسرح، ذلك الفن الحى.. لكن التصرف الذى يتخذه الممثل عقب «فقد السيطرة على الجمهور» يقول الكثير عن موهبته وقدراته وخبرته.
هذا ما حدث تحديدًا مع الزعيم عادل إمام حينما صفع صديقه الكوميديان العظيم الراحل سعيد صالح، فى المسرحية الشهيرة «مدرسة المشاغبين»، فى حضور الأستاذة الراحلة سهير البابلى.

حينها عم الصمت المسرح، كأن الجمهور ينتظر الضحك الذى سيعقب ما حدث.. ولم يطل الصمت كثيرًا، إذ تدخل الزعيم الأباصيرى موجهًا نصيحة لصديقه مرسى الزناتى بأن يتأدب حينما يخاطب معلمته، وبمجرد أن نطق الزعيم همهم الجمهور، كأنه لا يزال ينتظر الضحك المخبأ.
وبعد جمل كثيرة، حاول خلالها الثلاثى العظيم إعادة الجمهور للحالة المطلوبة، لم يستجب الناس للتراجيديا، فذهبت الست سهير لسعيد صالح لتصلح بينه وبين الزعيم، وفقًا للدراما، فأطلق مرسى الزناتى رصاصة الرحمة على المشهد، وبكى بشكل كوميدى، فأخرج الجمهور أخيرًا ما يدخره من ضحك متوقع أمام هؤلاء النجوم الكبار.
لكن هل ما فعله هؤلاء الكبار صحيح؟
بعيدًا عن الرواية الشهيرة حول ترك «مدبولى» مسرحية «مدرسة المشاغبين»، بسبب الارتجال الزائد عن الحد من عادل إمام وسعيد صالح، وبعيدًا عن اللقاء الذى انتقدت فيه سهير البابلى المسرحية ونمط الكوميديا المقدم خلالها- جاء رد الأستاذ مدبولى فى موضع آخر، وفى مسرحية أخرى، وهى «ريا وسكينة».
 

خلال مسرحية «ريا وسكينة»، أجبر القدر الست سهير البابلى على أن توضع فى نفس موقف الزعيم وصاحبه، إذ اضطرتها الدراما لصفع الأستاذ مدبولى.. فضحك الجمهور.
الست سهير استمرت فى التحدث، فى سياق تأنيب زوج أختها «حسب الله»، لأنه اقترح قتل زوجها «عبعال».. واستمر الجمهور فى الضحك أيضًا.
هنا، كان قرار «مدبولى» يحمل خبرة تهم كل ممثل يبحث عن الاتقان، إذ ظل واضعًا يده على خده، صامتًا وثابتًا، إلى أن انتهى الجمهور من الضحك تمامًا.. ثم غيّر طبقة صوته، وكموسيقار كبير بدأ التحدث بهدوء وحزن، ثم صنع «كريشندو صوتى»، إلى أن وصل لمرحلة الغضب والصوت المرتفع، فعاد الجمهور منقادًا دون وعى للحالة المطلوبة فى قصة المسرحية، كما كتبها المؤلف، وأعطاه الجمهور تصفيقًا قويًا ومستحقًا، ليس لأنه نجح فى إضحاكهم وإضحاك آبائهم وأبنائهم على مدار 56 عامًا، عمر نشاطه الفنى، بل لأنه ممثل جاد، يحترم مهنته، ويلتزم بـ«أصول الصنعة».