رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بشاير الخيرات من توشكى والعوينات

منذ ما يقرب من عشرين سنة ذهبت إلى الوادى الجديد.. كانت مجرد رحلة استجابة لدعوة كريمة من محافظها فى ذلك الحين.. سافرنا فى ساعات قليلة عبر الجو.. لكننا ومن أجل الانتقال من مركز الخارجة إلى مركز الداخلة قطعنا ساعات طويلة بالسيارات.. زرنا مشروعًا للشباب الذى غامر وذهب إلى هذه البلاد البعيدة التى لا نعرفها.. ولم نشاهدها فى التلفاز.. كان كل شىء طيبًا فى هذه الأرض مثل شبابها وأهل الوادى.. كانت الأرض ملحًا.. والبصل المزروع غارقًا فى الأرض الملحية والشباب محبطين من أن أحدًا لا يعيرهم أى اهتمام.. منذ ذلك التاريخ يطاردنى حلم تعمير تلك الصحراء.. اقتحامها.. الخير الذى تبدو ملامحه قرب قدميك يحتاج إلى مغامرة كبرى من الحكومة.. وعلى مدار سنوات ظل الأمر مجرد حلم. 

 

منذ ثلاثة أيام فقط.. كانت الكاميرات التى ذهبت لمتابعة زيارة الرئيس لمكان أبعد من ذلك بكثير.. أبعد من تلك البقعة بما يقرب من ٤٠٠ كم.. بالتحديد شرق العوينات.. كان المشهد مبهجًا لكل مَن ذهب إلى هناك.. ولكل مَن شاهد الشاشات التى نقلت الحدث.. ما يزيد على ٢٠٠ ألف فدان ها هى تزغلل العيون بالذهب الأصفر.. القمح.. لم أعمل مزارعًا.. لكن والدى كان كذلك.. وأعرف جيدًا ماذا يعنى ذلك الذهب بالنسبة لأهل مصر وللمزارعين منهم بالذات.. الأرض الجدباء ها نحن نقترب من استصلاح نصف مليون فدان منها فى تلك البقعة البعيدة التى لا نعرفها.. القمح ليس وحده هناك حسب المعلومات المتاحة محاصيل أخرى أبرزها البطاطس والتمور.. والعدس.. يا الله.. مصر عادت لتزرع فولها وعدسها.. ها هى مصر تسعى لأن تزرع وتنتج بدلًا من الاستيراد.. ما يزيد على عشرين شركة مصرية نرفع لها القبعة تعمل هناك.. ستة آلاف مصرى يعملون فى تلك الأرض.. مجمع مصانع وثلاجات لحفظ تقاوى البطاطس.. مصانع لإنتاج بطاطس نصف مقلية.. التفاصيل كاملة تحتاج لأن تراها الأعين المحبة مرة واثنتين وعشرًا.. الحكاية مش حكاية زرع وجنى وحصاد.. الحكاية إننا نقدر ونستطيع.. الحلم لم يعد حلمًا.. صار أمرًا واقعًا.. بعض التقارير التى نشرها صحفيون، كانوا هناك، تشير إلى أن هذه الأرض الرملية البكر أنتجت ما يزيد على العشرين إردبًا لفدان القمح.. وهذا ما يعنى أنها أرض حلوب.. وأن ما تم استثماره فيها لم يكن عبثًا.. وأن العلماء الذين أنفقوا سنوات من أعمارهم وهم يحاولون الكشف عن أسرار هذه الأرض لم تضع فى الريح.. مشروع شرق العوينات، وهو ثانى مشروعات مصر الكبرى فى الزراعة، مجرد نموذج يدعونا للفرح.. وهو الأمر ذاته فيما يخص مشروع التمور فى توشكى.. لقد تلقف البعض خبر حصول مصر على شهادة من موسوعة جينس.. تخص هذه العملاقة بشكل سخيف.. يبتعد كثيرًا عن الواقع الذى يجب أن نشاهده كل يوم.. هذه الآلاف من الفدادين التى تمت زراعتها فى توشكى بأجود أنواع النخيل كانت أرضًا جرداء.. فكيف يفكر هؤلاء الناس؟.. لقد ضاع الكثير من الوقت فى السنوات الخمسين الأخيرة من القرن الماضى والمحبون يصرخون.. يحلمون بأن نعود إلى سيرتنا الأولى فى الزراعة والتصنيع.. ولم يكن هناك مَن يسمع.. بل تركت الأراضى القديمة لمن يجرفها ويحولها إلى مصانع للطوب الأحمر.. ولبناء العمارات بالأسمنت المسلح حتى صار القبح هو السيد وضاع الأخضر تمامًا حتى كاد أن يتلاشى من أمام عيوننا. 

اليوم يعود.. ومن آخر نقطة فى جنوب البلاد.. توشكى والعوينات.. لم يعد الأمر مجرد حلم أو خطة أو مشروع.. صار مزارع وبساتين تتم زراعتها بأحدث الطرق العلمية الموفرة للمياه.. مزارع وبساتين يقطف أبناء الوادى من ثمراتها أعنابًا وزيتونًا وتمرًا وبصلًا وقمحًا.. لتقف إلى جوار مشروعات غرب المنيا ووادى النقرة ومستقبل مصر والدلتا الجديدة والمغرة إلى جوار الصوبات المدهشة على جانب طريق الصعيد الغربى.. عشرات وعشرات من الشركات المصرية تحفر فى الصخر لتمد خطوط الماء الذى تعطشت له هذه الصحراء منذ قرون.. الحلم لا يزال يجرى فى عروق أهلنا.. وبشاير الخيرات ها هى تطل علينا فى مواسم الحصاد.. تنبه الغافلين وتؤنس الحالمين وتشحذ همم المترددين.. مصر تعرف ماذا تريد.. والرسائل القادمة من تلك الصحراء الحبيبة فى آخر جنوب البلاد تقول لنا: لم يعد الحلم بعيدًا.. لم تعد هذه الأرض بعيدة.. اقتربت المسافات.. فاستبشروا خيرًا.