رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أم كلثوم» والشاعر «العربيد»

ارتبط الشاعر «عمر الخيام» بعلاقة صداقة وطيدة مع «نظام الملك» و«الحسن الصباح»، وهى علاقة تمتد بجذورها إلى مرحلة الطفولة، حين انخرط الثلاثة بالدراسة داخل مدرسة الشيخ «موفق النيسابورى». ولد «الخيام» بمدينة «نيسابور» أواسط القرن الخامس الهجرى، كما يذكر أحمد حامد الصراف فى كتابه «عمر الخيام»، واسمه بالكامل غياث الدين أبوالفتح عمر بن إبراهيم الخيام. ومدينة «نيسابور» من أجمل مدن «خراسان»، وكانت تتمتع فى عصر «الخيام» بمكانة علمية بارزة، مصدرها المدارس التى كان يديرها علماء المدينة المشاهير، ويَفِد إليها طلاب العلم من كل مكان.

خلافًا لصديقيه تمتع «عمر الخيام» بنفسية شاعر وعقل حكيم، فقد كان رجلًا مزاجيًا يهوى العلم من أجل العلم، وأَلمّ بالعديد من المعارف فى مجالات شتى، فى الفلك والرياضيات والطبيعيات، وألّف فى هذه المجالات عدة رسائل، والواضح فى تجربته أن المعارف العلمية بالنسبة له لم تكن أكثر من وسيلة للتعرف الأعمق والأنضج على الكون الذى يعيش فيه ليعبّر عنه شعرًا، فقد وجد عالمه فى الشعر والحكمة، ولم يكن له الطموح السياسى الذى تميز به صديقاه «نظام الملك والحسن الصباح»، فلم يخطط لكى يحتل موقعًا مهمًا داخل الدولة مثل الأول، ولم يسعَ إلى إنشاء تنظيم يستهدف به الدولة السلجوقية مثل الثانى، لم يكن «الخيام» يعيش بنفسية موظف ناجح أو زعيم ثائر، بل بنفسية شاعر متمرد على الانخراط فى أى عمل نظامى أو تنظيمى. امتاز «الخيام» أيضًا بمزاج حاد يتلاءم مع طبيعته كشاعر، وعشقه لتجارب العربدة يتسق مع نفسيته المتمردة، وغرامه بالحديث إلى الكون وخالق الكون يناسب رؤيته المتفلسفة للحياة.

عاش «الخيام» شبابه عربيدًا منطلقًا، زاهدًا فى القواعد الاجتماعية، قافزًا على التعاليم الدينية، مغرمًا بالمعرفة، يؤرقه ما يحمله عقله من أسئلة لا يجد لها إجابة عن الدنيا والآخرة، والثواب والعقاب، والجنة والنار، والخلق والبعث، وتبنى آراء منكرة لكل ما يقوله علماء الدين، وآمن بالطبيعة وبالحياة ومُتعها، وانطلق يدعو الناس إلى الاستمتاع بأطايب الحياة وشرب الخمر التى أغرم بها، وخلّد ذكرها فى أشعاره، ورغم ذلك فإن نفسه الحساسة التواقة إلى الحقيقة اهتدت فى النهاية إلى التسليم بأن وراء هذا الكون خالقًا عظيمًا، يمسك بناصية الكون والساعين على مسرحه من خلق ومخلوقات الله، فانطلق يناجى ربه بشعر خالد احتضنته «رباعيات الخيام» التى تعكس مزاج الشاعر الكبير والفيلسوف الحكيم، المتراوح بين الغرام بالدنيا ومتعها وأطايبها، والمناجاة الإيمانية للخالق العظيم.

أراد «الخيام» من الحياة وجه المتعة، وزهد فى أى عمل يفرض عليه بذل الجهد أو الإرهاق الذى يصرفه عن الانغماس فى ملذات الحياة، لكن يبقى أن الاستمتاع والتلذذ ليس بالمجان، بل يحتاج إلى المال، بل إلى الكثير من المال، ذلك هو المطَب الذى عاشه «عمر الخيام» حين نضجت نظرته إلى الحياة وتحددت وجهته فيها. هنالك تذكر صديقه القديم «نظام الملك»، وقد سمع أنه عُيّن وزيرًا لدى بنى سلجوق، واسترجع الحوار الذى دار بينهما وكان ثالثهما فيه الحسن الصباح، حين تعاهدوا على أن من يسبق منهم إلى النجاح والتألق أن يساعد صديقيه ويأخذ بأيديهما. قرر «الخيام» ذات صباح أن يشد الرحال إلى صديق الطفولة القديم، استقبله الأخير بالترحاب، وربما فرح فرحًا كبيرًا وهو يسمع صديقه يذكّره بالوعود والمواثيق القديمة التى كانت بينهما فى عهد الصبا، فقد كان فى ذلك شهادة بنجاحه وسَبْقه لرفيقى الطفولة.

يقول «أحمد حامد الصراف»، صاحب كتاب «عمر الخيام»، إن «نظام الملك» توجه إلى «الخيام» قائلًا: ولّيتك نيسابور ونواحيها، فرد عمر عليه: ليست لى طاقة بالسياسة وأمر العوام ونهبهم فأعطنى راتبًا شهريًا بحسب الوظيفة، فأعطاه نظام الملك عشرة آلاف دينار فى السنة من دخل نيسابور المحروسة بدون نقص ولا انقطاع. كان «الخيام» عاقلًا حكيمًا يرى نفسه بعدسة مستوية، ويعرف ما يريد جيدًا. لقد كان يريد المال السهل الذى لا يقتضى من طالبه بذل أى جهد، فعمر الخيام- طالب المال- كان رجلًا يريد أن يستكشف الحياة ويغوص فى أعماقها، ويخوض كل التجارب الممكنة لإنسان يريد التعبير عنها بعمق، ويطرح ما تثيره من أسئلة موجعة، ليعبّر عنها بعد ذلك فى إنتاجه الشعرى، لذا فقد كان واضحًا فى أنه لا يريد المنصب ولا النفوذ حتى ولو كان المعروض عليه ولاية نيسابور، المدينة التى ولد ونشأ وعاش فيها، إنه يريد فقط المال البرىء من العنت والتعب.

احتضنت «الرباعيات» فلسفة الشاعر الكبير عمر الخيام، وعبرت الأرض التى نبتت فيها وحلّقت أبياتها ومعانيها فوق أماكن شتى من العالم العربى والإسلامى، بل وفى الغرب أيضًا، عبر الترجمة، ليس ذلك وفقط، بل لقد تمكنت أفكارها وأوجاعها الخالدة القادرة على إثارة التفكير واستثارة أشواق الروح من العبور من جيل إلى جيل. تُرجمت الرباعيات إلى العربية على أيدى العديد من الأدباء العراقيين والمصريين، وكان الأديب محمد السباعى «والد الروائى يوسف السباعى» أول من اجتهد فى ترجمتها إلى العربية، ومن بعده ترجمها شاعر الشباب أحمد رامى، واختارت سيدة الغناء العربى أم كلثوم أبياتًا منها، وغنتها على أنغام العملاق رياض السنباطى، لتصبح الرباعيات التى كتبها «الخيام» فى القرن الخامس من الهجرة على لسان كل عربى منذ أواخر القرن الرابع عشر، وخلال القرن الخامس عشر من هجرة النبى، صلى الله عليه وسلم.