رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن محمد رفعت وعبدالرحمن الدروى

«قيثارة السماء، الصوت الذهبى، الصوت الملائكى، القيثارة الإلهية، مزمار من مزامير داود، وصوت من الجنة».. كلها ألقاب أُطلقت على الشيخ محمد رفعت «1882- 1950»، الذى يظلل صوته حياتنا إلى يومنا هذا، عاش مثلًا أعلى لكل من قرأ بعده، رفعت الذى فقد بصره فى الثانية من عمره، وعوضه الله بموهبة استثنائية كتبت له الخلود، وإلى جوار تعلمه بكُتّاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بحى السيدة زينب، وتعلمه المقامات على أيدى كبار معلمى زمنه- كان ابن حى الأغوات بحى المغربلين من هواة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهو القارئ الوحيد الذى عُرف عنه شغفه بسماع أعمال بيتهوفن وموتسارت وفاجنر وتشايكوفسكى. قال الشيخ محمد متولى الشعراوى: «إن أردت أحكام التلاوة فالحصرىّ، وإن أردت حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردت النفَس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردت هؤلاء جميعًا فهو محمد رفعت». قبل أن يفتتح الشيخ رفعت بث الإذاعة المصرية، استفتى شيخ الأزهر وقتها، الإمام محمد الأحمدى الظواهرى، عن جواز إذاعة القرآن عبر الأثير، فأفتى له بجواز ذلك، فافتتح البث بآية من أول سورة الفتح «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، ومن المؤسف أن الشيخ رفعت رفض أن تسجل الإذاعة قراءاته، حتى لا تستغنى بها عنه، فينقطع مصدر رزقه. وفى رواية أخرى، قيل إنه رفض تسجيل أسطوانات مخافة أن يمسها شخص غير طاهر!. كان نجم زمنه رغم ازدحام هذا الزمن بعباقرة فن التلاوة، كان صوفى النزعة، يميل إلى البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء، أحيا يومًا مناسبة لجارته الفقيرة بالمجان، مفضلًا إياها على إحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد، والد الملك فاروق. تسبب صوت رفعت فى حدوث إقبال كبير من الجمهور على شراء أجهزة الراديو، وازدحام المقاهى وبيوت الأعيان، الذين يملكون هذه الأجهزة النادرة وقتها، بالرواد والضيوف، وعرفت القاهرة، للمرة الأولى، ما سُمى «مقاهى الشيخ رفعت» التى فرضت على روادها نظامًا صارمًا وقت إذاعة التلاوة على الهواء، فلم يكن مسموحًا فى هذه المقاهى مطلقًا بلعب الطاولة والدومينو، أو إحداث أى ضوضاء من شأنها التشويش على الجمهور!. أصابت الشيخ فى عام 1943 «زغطة»، أو فواق، كانت تقطع عليه تلاوته، فتوقف عن القراءة، وأُصيب بعدها بسرطان الحنجرة، وأنفق كل ما كان يملك على العلاج حتى افتقر، لكنه لم يمد يده إلى أحد، واعتذر عن قبول المبلغ الذى جُمع فى اكتتاب «50 ألف جنيه» لعلاجه، قائلًا: «إن قارئ القرآن لا يُهان»، وحقق حلمه بأن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة، حيث تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد فأقام مدفنه عليها. وكان من عادته- قبل وفاته- أن يذهب كل يوم إثنين أمام المدفن ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم. 

الشيخ عبدالرحمن الدروى «1903- 1991» تعرض هو الآخر لمرض فى حنجرته، والدروى المولود فى قرية «دروة بأشمون» منوفية، صاحب صوت نادر، حزين وشجى ومؤثر، لا يشبه أحدًا،  نبرة خاصة، قال عنها «النبرة الغريبة التى فى صوتى يتميّز بها أهل قريتى جميعًا من الفلاحين الفقراء، وهى نبرة يكسوها الحزن بسبب الواقع المرير الذى عاشته القرية». هو القارئ الوحيد الذى لم يتقاضَ أجرًا طوال حياته عن قراءته، حتى عندما عمل مأذونًا بعد تخرجه فى الأزهر، كتب أحدهم: «صوته كان قبسًا حزينًا وشجيًا من صوت الشيخ محمد رفعت». كان الدروى من كبار المعجبين برفعت، ويلقبّه دائمًا بلقب «أستاذ عصره» فى التلاوة، كما كان معجبًا أيضًا أشد الإعجاب بالشيخ على محمود، وكان أيضًا شغوفًا بحضور كل الليالى التى كان يحييها الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، وكان يصف صوته بأنه «من أعظم الأصوات»، قال عنه محمود السعدنى: «إن الشيخ الدروى يتمتع بصوت متوسط فى رأى خبراء الصوت، لكنه يتمتع بقرار سليم ونبرة غريبة تهز النفوس، نبرة تأخذك إلى حيث رحيق الجنة»، وقال عنه أيضًا: «إنه صاحب القرار السليم، والنبرة الشجيّة الحزينة المتفردة التى تهز النفوس». فى عام 1949، توجه الدروى إلى الأراضى المقدسة لأداء فريضة الحج، بصحبة رئيس بعثة الإذاعة المصرية، وخلال وجوده هناك طلبت منه السلطات السعودية أن يفتتح بصوته أول إذاعة للمملكة، فقام بتسجيل 4 ساعات من التلاوة للإذاعة السعودية وقتها، ورفض أن يتقاضى أجرًا على هذه التسجيلات. وقال: «كيف أتقاضى أجرًا عن قرآن تلوته فى بلد نزل فيه القرآن؟». فى عام 1962، حاول الشيخ عبدالرحمن الدروى أن يسجل القرآن بالكامل مرتلًا «ختمة مرتلة»، ولكنه أصيب بمرض بالأحبال الصوتية، الأمر الذى أوقف مشروعه لتسجيل القرآن مرتلًا. والغريب أن الدروى أُصيب فى حنجرته مثل أستاذه الشيخ محمد رفعت تمامًا!، وفى رواية أخرى أن توقف مشروع الشيخ لتسجيل القرآن مرتلًا جاء بسبب وقوع خلاف ما بينه وبعض مسئولى الإذاعة وقتها، وأن الدروى حزن ومرض على إثر ذلك، وبعد مرضه آثر أن ينسحب بعيدًا ليظل فى ذاكرة مُحبيّه، ولكن هذا لم يمنعه من إحياء الليالى فى قريته التى ارتبط بها طوال حياته كلما خفت حدة المرض. ظلّ الشيخ يعانى من المرض قرابة ثلاثين سنة.. ألف رحمة ونور.