رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السيدة نفيسة.. زعيمة الكرامات

السيدة نفيسة
السيدة نفيسة

عامرة أرض مصر بالطيبين والطيبات، لأن قلوب أهلها خير منازل للطاهرين، ولا يوجد شعب من بين شعوب المسلمين يحب ويخلص فى محبة آل بيت رسول الله كما يخلص ويحب المصريون، ومن بين قصص الحب العظيمة هذه تبرز قصة حبهم لحفيدة النبى الكريم السيدة نفيسة، رضى الله عنها.

ولدت السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب فى مكة فى ١١ ربيع الأول عام ١٤٥ هجريًا، وانتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وهى فى الخامسة، فكانت تذهب إلى المسجد النبوى وتسمع إلى شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى لقّبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.

وتقدّم الكثيرون لطلب الزواج من نفيسة العلم لدينها وعبادتها، إلى أن قبل أبوها بتزويجها بابن عمها، واسمه إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وتم الزواج فى رجب ١٦١ هجريًا، فأنجبت له القاسم وأم كلثوم.

وذكر المؤرخون أنه حين تنكر الخليفة العباسى لآل البيت وقرروا عزل الحسن بن زيد، والد السيدة نفيسة، عن ولاية المدينة، ساءت أحوال أهل البيت لما تعرضوا له من ظلم على أيدى الخلفاء العباسيين.

ومنذ ذلك الحين قرر الإمام الحسن، والدها، أن يختار بلدًا غير المدينة ليقيم فيه رغم أنها كانت عزيزة لديهم؛ ففيها قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، إلا أن العباسيين قد ملأوها بالجواسيس فكانوا يحصون على العلويين أنفاسهم حتى قيدوا حركاتهم خوفًا وتحسبًا من أن ينادى الناس بهم خلفاء للمسلمين.

وأدى سلوك العباسيين إلى أن الناس كانوا يخشون على أنفسهم أن يجتمعوا بآل البيت جهارًا، حتى شعر أهل البيت بالعزلة والوحدة ففكروا فى البحث عن وطن جديد يعوضهم به الله عن أحب البلاد إليهم، فكان حظ مصر، التى جاء ذكرها فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع، بأنها بلد الأمن والخير والبركة، وهى البلد الذى اختارته من قبل السيدة زينب، ابنة الإمام على بن أبى طالب، لتقيم فيه بعد استشهاد أخيها الحسين فى يوم كربلاء. 

وفى سنة ١٩٣هـ، رحلت نفيسة مع أسرتها إلى مصر، ومروا فى طريقهم بقبر الخليل فى بيت المقدس، وحين علم أهل مصر بقدومهم خرجوا لاستقبالهم فى العريش.

وصلت نفيسة إلى القاهرة فى ٢٦ رمضان ١٩٣هـ، ورحّب بها أهل مصر، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم، ولما ذاعت كرامات السيدة نفيسة فى القُطر المصرى هرع إليها الناس من كل جهة فازدحموا على بابها وضاقت بهم الدار، ولما رأت أنهم شغلوها عن أورادها وقد ضاق المكان بالزوار فكرت فى العودة إلى الحجاز، لكن أهل مصر توافدوا على بيتها يرجونها البقاء وتوسلوا بالسرى بن الحكم، أمير مصر، للتوسط فى بقائها بينهم.

وذهب إليها السرى وطلب منها البقاء بمصر، ووعد بإزالة شكواها، ووهب لها داره الواسعة فى درب السباع، المعروفة بدار أبى جعفر خالد بن هارون السلمى، فانتقلت إليها وخصصت يومى السبت والأربعاء من كل أسبوع للمترددين والزوار حتى لا تنشغل بطلباتهم عن العبادة، وظلت فى هذه الدار إلى أن توفيت بها ودفنت.

يقع مسجد وضريح السيدة نفيسة فى حى الخليفة «درب السباع سابقًا»، ويطلق الناس على الطريق الذى يقع فيه اسم «طريق آل البيت»، لما يضمه من مساجد ومقامات شهيرة مثل مشهد الإمام على زين العابدين، والسيدة زينب بنت على، والسيدة سكينة بنت الحسين، والسيدة رقية بنت على، والإمام محمد بن جعفر الصادق، والسيدة عاتكة عمة الرسول.

ونقل المؤرخون عن السيدة زينب، ابنة أخيها يحيى المتوج، عن حياة عمتها السيدة نفيسة فتقول: «خدمت عمتى نفيسة أربعين سنة ما رأيتها نامت الليل ولا فطرت بنهار إلا قليلًا، وكنت أقول لها ألا ترفقين بنفسك؟ فكانت تقول: كيف أرفق بنفسى وأمامى عقبات لا يقطعها إلا المجاهدون».

وكان يتردد على مجلسها فى دارها أئمة الفقه وعلى رأسهم الإمام الشافعى، رضى الله عنهم جميعًا، وكان كثيرًا ما يطلب منها أن تدعو له بالشفاء حين يعاوده المرض، وقد قرأ عليها الحديث واستمع إليها، كما كان يصلى بها التراويح فى شهر رمضان.

وحين حضرته الوفاة أرسل إليها يلتمس منها أن تدعو له كعادتها، فقالت لخادمه: «أحسن الله لقاءه ومتعه بالنظر إلى وجهه الكريم»، وحين عاد إليه الخادم بالرد أيقن «الشافعى» أنه المرض الذى لا شفاء منه وأن الأجل قد حان.

وأوصى «الشافعى» بأن تصلى عليه السيدة نفيسة، وبالفعل جرى تنفيذ وصيته وصلّت عليه السيدة نفيسة فى دارها مأمومة بصاحبه ابن يعقوب البويطى، وكانت تعجز عن الحركة بعد أن تقدم بها العمر.

وقيل إنه عقب الصلاة على «الشافعى» سُمع صوت يقول: «اللهم اغفر لمن صلى على الشافعى، واغفر للشافعى بصلاة السيدة نفيسة وقد ترحمت عليه فقالت رحم الله الشافعى كان رجلًا يحسن الوضوء».

وقد خلت حياتها من كل جليس يواسيها فى تقلبات الأيام، ومنها رحيل زوجها ووفاة والدها وابنيها ثم الإمام الشافعى، ومع ذلك كانت راضية بقضاء الله صابرة لحكمه متفرغة لتلاوة القرآن وتدريس العلم ولا تنام من الليل إلا قليلًا، صائمة أكثر أيام الأسبوع. وقيل إنها حفرت قبرها بنفسها وختمت فيه القرآن ألف مرة، وصلّت فيه ألف ركعة، وذكرت الله أضعاف ذلك، وكانت تدعو الله أن يقبضها صائمة، وبالفعل تحقق لها ما تمنت، فسلام الله عليكم آل البيت ورحمته وبركاته.