رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد شهر على الزلزال الكبير.. متطوعات «الخوذ البيضاء» تروين لـ«الدستور» لحظات الألم والأمل

متطوعات الخوذ البيضاء
متطوعات الخوذ البيضاء

"الدمار في كل مكان، الجثث هنا وهناك، الأنقاض تكاد تصرخ امتلاءًا بما ابتلعه جوفها من ضحايا، الكلمة هنا للموت والخوف فقط، هذا هو الموقف الذي عايشناه منذ الفاجعة الكبيرة، ومازلنا في تداعياته إلى الآن على الرغم من مرور أكثر من شهر على حدوثها أنهن "متطوعات الخوذ البيضاء" في سوريا اللائي لم توقفهما فاجعة زلزال سوريا وتركيا الكبرى، فخرجن مرتديات زي الإنسانية الذي غلب على خوفهما الفطري، ليساعدن في إنقاذ ونزع أي روح من يد الموت المسيطرة، ومازالا يقدما الدعم المادي والمعنوي لضحايا الكارثة إلى الآن.

بعد مرور أكثر من شهر على زلزال سوريا وتركيا "الدستور" تواصلت مع عدد منهن ليروين لحظات الألم والوجع الذي عايشناه في هذه الكارثة التي وصفت بأنها الأكبر في تاريخ القرن، وهن ينازعاها مقدمن يد الرحمة من الموت لكل من وافته فرصة ولو ضئيلة للنجاة.

ندى: تركت طفلي ذو الستة أشهر وخرجت لموقع الاستجابة 

ما لبث أن صمت الزلزال قليلًا عن التدمير حتى حملت وليدها ذو الستة أشهر على ذراعها وأبنائها معها وتركتهم بإحدى خيام الجيران على الطريق، واستودعها زوجها أمانة لدى الله، لتتجه إلى موقع الكارثة من أجل إنقاذ الضحايا تلك هي المتطوعة ندى "أم عبد الله" التي وصفت لـ"الدستور" ما شاهدته يوم زلزال تركيا سوريا بأنها قد رأت بأم أعينها يوم القيامة الصغرى.

"انتقلنا إلى مدينة الدانا، استطاع الفريق أن يخرج بعض الأحياء من تحت الأنقاض، ولكن المواقف كانت كتير مؤثرة، لن تنساها العين ولا القلب"، رأيت أم تحضن ابنها على الدرج وكأنها هربانة، وهما الاتنين قد توفيا متعانقين".

"رأيت كم كانت معداتنا لا تكفي لإخراج الجثث والضحايا أمام كثرتهم وهول الموقف، رأيت صدمة المدنيين ومساهمتهم في انتشال الجثث والمصابين من ذويهم معنا، وقد بهتت وجوههم وانحبست دموعهم من هول تلك الصدمة، وسط نداءات منا ومنهم أعلى الأنقاض على أحياء، ومحاولات إنقاذ من وجد به آثر روح، غرقت في دموعي ورغم ذلك لم أستطع التوقف.

"إننا القشة التي يتعلق بها المدنيون حتى من قبل الزلزال، نحن من نقدم لهم الخدمات الطبية، والإسعافات الأولية بعد أوقات القصف، ونصل الخدمة إلى مخيمات غير القادرين منهم، نحن لم نكتفي بذلك بل نقدم لهم الدعم النفسي والتوجيه، ونتطوع لعمله ونفعله بحب، وهو ما دفعنا إلى عدم التخلي عن موقفنا في تلك الكارثة إذ أننا نعلم جيدًا أنه هذا وقتنا وتلك لحظتنا فتركنا بيوتنا وأهلينا وذهبنا للإنقاذ".

لم ترى ندى طفلها الصغير إلا بعد 4 أيام من وقوع الزلزال كانت تخرج من الثامنة صباحًا إلى الثانية بعد منتصف الليل، وعندما أرادت أن تذهب لرؤية مدينتها حمص، ما وجدت إلا رائحة الموت تستقبلها في كل مكان، لتصف أن تلك الكارثة تركت حزنًا في قلبها فاق حزنها على استشهاد أخواتها الثلاث من قبل.

ندى 

وقد ضرب الزلزال الذي يعد أكبر كارثة طبيعية خلال القرن حسب منظمة الصحة العالمية فجر اليوم الاثنين السادس من فبراير كل من تركيا وسوريا بقوة 7.9 درجة على مقياس ريختر، قفزت حصيلة الوفيات الناتجة عنه إلى أكثر من 37 ألفا و500 شخص، وسط توقع مسؤول بارز بالأمم المتحدة بأن الحصيلة النهائية سوف تصل إلى أكثر من 50 ألفًا على الأرجح.

وفي تركيا وحدها، أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد"، ارتفاع حصيلة الوفيات جراء الزلزال الذي ضرب جنوبي البلاد، إلى 31 ألفًا و643 شخصًا، بحسب وكالة أنباء الأناضول، وأصيب 80 ألف شخص آخر، وفي سوريا، لقى أكثر من 5900 شخص على الأقل حتفهم، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية.

 

خديجة: قال لي طفل "أنا شو عملت ؟أنا شو عملت؟"

"بالساعات الأولى ما حسيت إنه الموضوع كارثي بها الشكل إلا لما طلعت وشوفته، كان المطر كتير والعاصفة شديدة ولما شوفت الوضع كيف مأساوي، اتجهت من السابعة الصبح إلى المشفى" تقول خديجة خطيب متطوعة أخرى من متطوعات الخوذ البيضاء لـ"الدستور" واصفة أولى لحظاتها مع الكارثة.

"هنيك بمستشفى باب الهوى الميداني، كانت مكتظة بالجثث أكتر من المصابين، ما رأيت حتى إصابات صغيرة، كلها كبيرة، كتير أشخاص ما بيعرفو عيلتن".

"اتقصفنا أم شو اللي صار، شو اللي فيه؟ تلك كانت الكلمات التي نبست بها بالكاد طفلة صغيرة "متشطحة"- حسب وصف خديجة" أي قدمها مكسور ومورم وجهها" في دهشة فطرية وببراءة الطفولة، وقد اختلطت على تلك البراءة الكوارث التي اعتادت عليها فما عادت تميز بين أيهما الذي قد وقع وألحق به أثاره التدميرية.

"كنت أحاول أن أجيب على أسئلتها بس أنا أيضًا كنت مضطرة أكفي مسيرتي لأشوف باقي النساء لأن كان فيه نقص كتير في الكادر النساء و قد ملأ الأسى قلبي على هيك الطفلة- خديجة تقول.

وتابعت: "لما نزلت إلى الإسعاف شوفت الطفل حسن يا عمري يا عمري على ها الطفل عمره 6 سنوات وجاي بدون حدا من أهله ما بيعرف حدا منهم وهيك مصدوم، وما بيعرف شي عن القصة ولا شو اللي صاير. 

 

تصف: "كانت رأسه مفتوح والطبقة الخارجية كانت رايحة وكنا بدنا نشوف الدماغ من جوه متأثر أم لا" مستكملة "حملته على يدي إلى غرفة التصوير، وهو بس كان عم يضمني ما حكى شي نهائيًا ولا بيعيط ولا إنه صرخ، كان بس عنده صدمة تامة".

"قلت له حسن ما بدك فيه؟ قال أنا ما بدي شي، أنا بس بدي أعرف أنا طفل بالصف الأول أنا إشو عملت إني من ما بركت في ها البيت اللي أنا فيه وأنا ما شوفت الخير..أنا شو عملت؟- تقول خديجة

أطلقت خديجة تنهيدة حزينة بالكاد تغلب الدموع وقالت: “حاولت أحكي له إنا بس نخلص راح نرووح ونلعب، ماعنده أي ردة فعل، وهمدان، لما وصلت على المشفى.. كان لازم نطلع على مكان الأرض، أمنته عند أحد الاشخاص، وحطيته على الطاولة، بس عم يطلع فيا ويبكي دون أن يعطي صريخ أو ردة فعل، هو بحاجة إني أبقى معه، بس أنا طلعت، صرت أبكي، أنا ما قدرانه أبقى معه، وما قدرانة أتركه بها السهولة”.

خديجة 

تكمل تنهيدتها "كتير كتير ألمني حسن، وما بعرف إذا عرف يوصل لأهله أو لا بس اللي بعرفه إنه على الأغلب أهله جميعًا استشهدوا.

وقالت "بمدينة حارم، كنا نتواصل مع شاب أخر تحت الأنقاض كان يخرج بناته وقعت عليه البناية، واللي زاد ألمي أن اسمه حسن أيضًا، وأمه ستينية جوارنا، مالها طاقة ما عم تقول إلا يارب.

وتابعت: "بقينا 6 ساعات نشتغل على نفس البناية وفي الساعات الأخيرة ما عدنا قادرين نتواصل مع حسن حتى فقد الحياه هو وبناته"، وتكمل "شعور صعب إن عم تتواصل مع شخص وأن يكون لديه أمل طول هاالفترة في الحياة وبالأخير لا يمكنك إنقاذه".

واختتمت بقولها: "صرت أرجع على البيت الساعة 4 الصبح ما عم أقدر أكل ما عم أقدر نام والمشاهد براسي، أبقى كل يوم ما قدرانة استجيب مع اللي حواليا".

إيمان: أصريت أن أنزل إلى موقع الاستجابة بدلًا من المستشفى

أصرت إيمان محمود الشيخ إحدى متطوعات الخوذ البيضاء أن تذهب إلى موقع الاستجابة والأماكن المنكوبة وألا تكتفي بالعمل داخل المستشفى، وذلك بعد أن رأت عدد الجثث والمصابين في المستشفى "قلت لزملائي إذا كان هون هذه الحاجة لي، كيف الحاجة لي هناك على الأرض، خاصة نحن مجتمع شرقي والزلزال كان في وقت متأخر نوم، فأغلب النساء والأطفال أكيد كنا بملابس مكشوفة أردت أن أنقذهن وأساعد في سترهن".

تقول "لم ينتهي الزلزال بعد، هناك العديد من الهزات الارتدادية، وهو ما مثل خطر على فرقتنا، فقد تهدم هذه الهزات البنايات التي نعمل جوارها، ولكن مناشدات الأهالي وأصوات استغاثاتهم تحت الأنقاض جعلتنا نأبى الرحيل أو التوقف ثوان عن البحث عن ناجين”.

وتتابع: "كل ثانية لنا كانت بمثابة إنقاذ روح، كنا نرفض أن نستريح، توجعنا ضمائرنا إذا أخذنا هذه الراحة، فقد كنا نستطع في تلك اللحظات أن نخرج روح حية، وننقذها من الموت، كنا في سباق حقيقي مع الزمن".

جثتين لأختين انتشلتهما فرق الإنقاذ وهما ممسكتين بعضهما البعض، وكانا على سلم وكأنهن حاولا الهروب عن طريقه أثناء وقوع الزلزال، لم يغيب هذا المشهد عن بال إيمان "رأيتهما وبكيت وسألت نفسي، ماذا كانت آخر كلمتهما لبعضهما، هل ماتت إحدهما قبل الأخرى، أما ماتا معًا؟ ما الشعور الأخيرالذي لاقيناه قبل الوفاه؟".

"ناشدتنا كذلك أم لطفل عالق تحت الأنقاض، قالت لنا "إنتوا أملي بعد الله فإن ابني يطلع حي، كلماتها تلك جعلتنا نبذل كل ما في طاقتنا لكي نعثر على الطفل حي، ولا نخذل الأم فينا، ولكن وبعد بحث ساعات علمنا أن الطفل تم انتشال جثته في أحد المناطق القريبة" تقول إيمان.

هنا تتوقف إيمان ثوان وتتنهد قائلة بصوت نحيب" لم أجرؤ أن أنظر في عيني الأم وأقول لها الخبر، أخبرنا الأب ليقول لها، وطول عملي بعد ذلك ظللت أفكر في ردة فعلها أول ما سمعته.. الموقف كتير مؤثر ولكن ليس لدينا وقت حتى لكي نحزن بل علينا أن نعمل من أجل الإنقاذ الإنقاذ والمساعدة فقط ..كتير ضغط نفسي علينا ربما نحتاج سنوات طويلة لنتخلص من أثاره.

فاطمة: نقدم الدعم والمساندة للناجين ونحن مصدر الطمأنينة لهم 

ترى فاطمة عبيد متطوعة بالدفاع المدني السوري أن وجودهن هن سيدات الدفاع المدني سيدات الخوذ البيضاء في صفوف الدفاع الأول كان هام جدًا ،"نحن نعطي الأمل لمن هم تحت الأنقاض بأن هناك فرص للنجاه، نشعر الأهالي بأننا معهم، نقدم الإسعافات الأولية للنساء والأطفال والجميع، يستمد الأطفال المذعورين منا الأمان، ولكن الأمر القاسي عند توصيلهم إلى المستشفيات وتسليمهم إلى الفرق الطبية، يبكون لا تتركونا ابقوا معنا..قلوبنا عم تتقطع".

تقول: "فقدنا في كارثة الزلزال 3 من صفوف متطوعي الخوذ البيضاء المتطوعين غير  ما رآه هؤلاء من مواقف مأساوية".

"فهذا متطوع ظل يحفر 48 ساعة ببناية عائلته وهو يعلم أن جميعهم قد ماتوا، ليخرج جثة جثة منهم، وهو يبكي حرقة، وألمًا على عائلته جميعها التي راحت، وهذا متطوع ترك أهله الذين عرف أنهم ماتوا وراح لإنقاذ أخرين أملًا في إنقاذهم من الموت".

"المواقف كانت صعبة وكثيرة لن تغب عن العين والذاكرة، رأيت ولادة الطفل من بطن الأم التي سقط عليها الركام فماتت هي وعاش الطفل، رأيت الأب الذي مات في وضع السجود فوق بناته ليحميهن وماتوا جميعًا".

واختتمت: "ولكن وسط هذا السواد كان هناك بعض النقاط المضيئة، تلك اللحظات التي نخرج فيها شخص حي من تحت الأنقاض، يهون التعب والألم، وذلك مثلما حدث مع الطفلة إسراء التي ظللنا نتواصل معها تحت الأنقاض لساعات حتى تمكنا من إخراجها، لتكون واحدة من مظاهر الحياة التي انبعثت من رائحة الموت".