رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سهرة مع يحيى خليل

قبل أسبوعين ذهبت بصحبة ابنتى التى تُكمل عامها الثامن عشر خلال أيام إلى حفل لموسيقى الجاز بقيادة الرائع دائمًا يحيى خليل، ولأننى أعرف مسارات الفنون فى حياة ابنتى، لم تكن توقعاتى لإقبالها على الحفل فى أحسن صورة ممكنة، خصوصًا أنها من أوائل من اتجهوا ناحية الفنون والمسلسلات القادمة من الركن الكورى الجنوبى، وأوائل من احتفوا بالفرق الغنائية الكورية فى مصر.. نعم كان ذلك قبل سنوات طويلة، ربما تكون كافية لإحداث قدر كبير من التغيير، وهى بالفعل تحاول الآن أن توحى لى بأن اختياراتها نضجت بما فيه الكفاية، لكننى مازلت أراها طفلتى الصغيرة التى أستمتع بمشاركتها فى كل فعل تقوم به، ولو كان على عكس ما أحب، أو على عكس ذائقتى.. وأجاهد، بينى وبين نفسى بالطبع، لمحاولة جذبها إلى ما أحب من موسيقى وأفلام وكتب، أو تسريب ما يوافق ذائقتى من عناصر المتعة الفنية إلى وجدانها، وربما كان ذلك هو السبب المباشر فى أننى لم أسألها قبل الحفل عن رأيها، أو عن مواعيدها أو ارتباطاتها.. فقط أبلغتها بعزومتى لها على الحفل، حددت الموعد الذى أبلغتها قبله بفترة كافية، وطلبت منها أن تتفرغ له، حتى إننى لم أقل لها شيئًا عن من هو يحيى خليل، ولا عن رحلته الأسطورية مع موسيقى الجاز فى مصر والعالم، ولا عن مكانته الفنية بين أبناء جيلى..

كنت أظن أنها لم تسمع له من قبل، وأنها سوف تكتفى بوجودنا معًا فى الحفل، لكن ما حدث فى قاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية كان له رأى مغاير تمامًا لكل توقعاتى، فما إن بدأ الحفل حتى رأيت فتاتى الشابة تُخرج هاتفها المحمول، وتبدأ فى تصوير وتسجيل كل شاردة وواردة، تقترب بعدسات الكاميرا من وجه يحيى خليل، وترصد انفعالاته مع كل «خبطة درامز»، ومع كل نوتة، تضحك من تعليقاته وقفشاته التى تملأ وجوه الحاضرين بمتعة حضوره الشخصى الفاتن، وتنخرط وسط حالة من التوحد الكامل لجمهور العرض مع إيقاعات يحيى خليل وفرقته، تمامًا مثلما حدث معى أوائل التسعينيات من القرن الماضى، فكنت كلما نظرت باتجاهها، حملت لى الكثير من الذكريات، والحنين إلى ليلةٍ من المتعة الخالصة، والجمال الذى لا تحده سماء.. وقتها لم أكن أعرف عن موسيقى الجاز أكثر من معلومات شحيحة حول نشأتها الأمريكية، والبعض القليل من روادها.. ولم أكن أعرف عن يحيى خليل أكثر من كونه مؤسس فرقة «رباعى القاهرة لموسيقى الجاز»، صاحبة الفضل الأكبر فى ظهور نجم المطرب الشاب وقتها محمد منير، ومؤلف موسيقى مقدمة البرنامج التليفزيونى «حكاوى القهاوى»، التى كانت واحدة من أكثر المؤلفات الموسيقية قربًا إلى قلبى، لما فيها من إيقاعات مرحة، خفيفة.. 

كنت مجرد قروى يحب الكتابة والموسيقى والغناء، ويبدأ رحلته مع الصحافة والكتابة والأدب، وعرفت بالصدفة أن هناك حفلًا لموسيقى الجاز بمسرح الجمهورية القريب من وسط القاهرة، ربما لا أذكر الآن الكثير من تفاصيل ذلك المساء البعيد، ولا مَن كان صاحب الدعوة، أو رفيق الحفل، وما تبعه.. كل ما أذكره، أننى وبدون مقدمات وجدتنى أحلق وسط مئات الحضور فى سماء الموسيقى الصافية، تغمرنى نشوة الذوبان وسط الجميع، تقودنا نقرات يحيى خليل على «الدرامز» وهى تتسارع فتتسارع معها نبضات القلوب، وتتوحد مع الآلة التى تتصدر المسرح، ويجلس خلفها يحيى بلحيته البيضاء، وحبات العرق تنساب حول وجهه الغارق فى الموسيقى.. يا الله.

ليلتها عدت إلى منزلى ولا شىء يشغلنى غير سطوة الموسيقى، وقدرتها على الحضور، وتوحيد الآلاف على خبطة «درامير واحد».. لا يشغلنى غير سؤال واحد: كيف فعلها هذا المجنون؟

هى ذات الحالة التى حدثتنى عنها ابنتى عند عودتنا إلى المنزل، عن متعة اكتشاف ذلك الجمال الذى تمتلكه قاعات العرض، وتلك الموسيقى، والروح التى يمكن أن تبثها فى جموع الحاضرين، والأهم من ذلك كله كان هو حديثها عن استمتاعها بالحفل، ورغبتها فى إعادة اكتشاف تفضيلاتها الغنائية والموسيقية، وهو بالضبط ما حدثنى عنه قبلها يحيى خليل نفسه، عندما كان يحكى لى قبل أشهر عن حلمه الكبير لمستقبل موسيقى الجاز فى مصر، الحلم الذى كان، ولا يزال، يطارده بإحياء تلك الموسيقى ونشرها فى ربوع مصر من خلال جولات فى المحافظات، وخصوصًا محافظات الصعيد، وقال لى إنه تقدم بمشروع تلك الجولة إلى الفنانة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة السابقة، على أمل أن تدعمها، ولو بفتح مسارح الهيئة العامة لقصور الثقافة لاستضافتها، بدلًا من حبسها فى قاعات دار الأوبرا التى يقتصر جمهورها على نخبة محدودة من محبى الموسيقى فى القاهرة والإسكندرية.. ووجدتنى أتذكر جلساتى وقليلًا من الأصدقاء فى قاعات قصر الثقافة بمدينة شبين الكوم، وأتذكر غرفه الخاوية إلا من بعض الموظفين، نتحدث عن الشعر والكتابة والأدب، ونتأمل المسرح الكبير الغارق فى الفراغ والظلام.. ووجدتنى أتساءل بينى وبين نفسى: ولمَ لا؟

ولعله من المناسب الآن أن أعيد توجيه النداء إلى الدكتورة نيفين الكيلانى، وزيرة الثقافة الحالية، بإعادة النظر فى مثل هذا المشروع الذى تقدم به الموسيقار الكبير يحيى خليل، والعمل على الخروج به إلى النور.. فكم تتكلف الوزارة إن هى فتحت أبواب تلك المسارح المنتشرة فى عموم مصر لحفلات يحيى خليل وعمر خيرت وياسر عبدالرحمن وفرق الموسيقى بمختلف ألوانها ومشاربها؟ وكم سنجنى من هذه الحفلات؟ أغلب الظن أن تحقيق مثل هذه الأمنية لن يكلف الوزارة الكثير، بل إن مردودها سوف يكون أكبر بكثير، وعلى المستويات كافة.. جربنا الندوات، والمحاضرات الفكرية، والمواجهة مع قوى الظلام بالكلمات والأفكار، وأظن أنه حان الوقت لتنوير الأرواح.. المهمة التى لا تقدر عليها سوى الموسيقى وحدها. وأغلب الظن أن فتح الأبواب أمام مثل هذه النوعية من المشروعات سوف يضيف الكثير والكثير إلى وزارة الثقافة، وسوف يوفر علينا الكثير والكثير من الجهد فى مواجهة أعداء الحياة.