رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والعرب.. تكامل لا تفاضل

بين فترة وأخرى تظهر بعض الأصوات التى يؤلمها غياب القوة الناعمة المصرية، وتهافتها، أو تراجعها أمام الحضور العربى، والخليجى على وجه التحديد، وتصدره المشهد الثقافى العربى، وخصوصًا فى مجالات الآداب والفنون والرياضة، من حيث الحفلات والجوائز والتكريمات، أو من حيث الإنشاءات الحديثة، كالملاعب والاستديوهات والسينمات والمسارح، لكن بعض هذه الأصوات تتمادى فى مخاوفها، فتتصور أن هناك حربًا للسيطرة على الثقافة المصرية، أو لتهميشها، وسحب بساط «الريادة والتميز» من تحت أقدامها، وهى فى ظنى مخاوف لا ترى كامل الصورة، أو تتغافل عن واحدة من أهم مكونات المشهد، وتتجه مباشرة إلى نظرية المؤامرة التى أرى أنها غير حقيقية بالمرة، بل إن العكس هو الصحيح تمامًا، فكلهم يعتمدون فى نهضتهم المشروعة والطبيعية والمطلوبة على الكوادر المصرية وغيرها، ويبنون قواعد مستقبلهم بسواعد مصرية وغير مصرية، تهمهم الكفاءة والقدرة والإنجاز، لا الجنسية، ولا بلد المنشأ، فالمعلوم من أمور السياسة والاقتصاد أن الدول تعمل وفق مصالحها ومصالح شعوبها، تبحث عن مقومات نهضتها وفق ترتيب محدد لأولوياتها التى لا تتصدرها سوى المصلحة الخاصة، لا الإضرار بالغير، ولا التقليل من أحد، أو كراهية أحد.

مرة يقولون إن الإمارات تريد أن تسحب البساط من مصر، ومرة أخرى يقولون إنها السعودية، وثالثة قطر أو لبنان أو المغرب أو غيرها، والحقيقة أننى أرى أن هذه الأصوات التى ينتسب عدد كبير منها إلى حقول الفنون والآداب لا ترى أبعد من تحت أقدامها، أو تحركها الغيرة المتطرفة، إن شئنا حسن الظن، لأنه بحسابات المصلحة، فالأرجح، فى ظنى، أن العلاقة بين مصر والعرب ينبغى أن تبنى على أسس التكامل لا التفاضل، والنهضة يبنيها العمل والإنتاج والمنافسة، لا الجلوس على الأطلال، وبكاء الماضى واستدعاء أمجاده دون بناء عليه، واستكمال مسيرته. 

عندما تذهب شركات الإنتاج السينمائى لتصوير شوارع مصر وحواريها، بل وأهراماتها ومعابدها، فى المغرب، فذلك ليس لأن المغرب تحارب مصر، أو تكرهها أو أى وهم آخر، ولكن لأن الجمارك المصرية، وصبية الشوارع، والمتحرشين بالأجانب فى كل شبر فى ميادين المحروسة، هم من يكرهون مصر، ويحاربونها، ويقفون ضدها، ويتسببون فى تفضيل الغرب لاستوديوهات السينما فى مراكش والدار البيضاء.

وعندما تقيم السعودية حفلًا لتكريم كبار نجوم الغناء والتمثيل فى العالم العربى، وفى المقدمة منهم نجوم مصريون نشهد لهم جميعًا، فذلك لا يعنى كراهية لمصر أو سحب للبساط من تحت أقدامها بأى حال من الأحوال، ولا يمكنك أن تلوم أحدًا على ذلك، وإنما اللوم كل اللوم على مؤسساتك التى تتنظر موت النجم حتى تحتفل بمنجزه، اللوم كل اللوم على شركات الإنتاج المصرية التى تحركها العلاقات، والوساطات، وتتجاهل نجومًا كبارًا لمجرد أنهم لا يروقون لأحد المتحكمين فى إدارة الإنتاج، أو لا يدفعون نسبًا من أجورهم لوسيط يملك مفاتيح الظهور على الشاشات.

وعندما تخصص الإمارات وقطر والكويت جوائز مالية كبيرة للرواية والقصة القصيرة، وفروع الآداب كافة، وتمنحها وفق اختيارات لجان تحكيم تختارها من كل الدول العربية، ويفوز بها مصريون أحيانًا، ولبنانيون وعراقيون وفلسطينيون، فلا يمكن أن يكون ذلك مصدر اتهام لأى منها بالتقليل من أدباء مصر، وأنت لا تمنح سوى جوائز هزيلة، تتشكل لجان تحكيمها وفق المزاج والشلة، وتختار الفائزين بها من المحتاجين والمرضى وذوى القربى، والمؤلفة قلوبهم.

ماذا يضير مصر أن يكون لدى الإمارات مدينة للإنتاج الإعلامى تستقطب الكفاءات من كل الدول العربية بما فيها مصر، أو تكون لديها نهضة فنية تنافس الجميع؟ فالمنافسة تخلق الجودة، والتنوع يمنع الاحتكار، والسيمفونيات العظيمة يصنعها التجانس وتعدد الأصوات.

لماذا يغضب أيًا كان عندما تكرم السعودية مطربين ومطربات وممثلين وكتابًا من مصر وكل الدول العربية، وتدعوهم لإقامة الحفلات، والمهرجانات التى يستمتع بها الجميع، ويكسب منها الجميع؟

لماذا ينبغى أن يكون هناك طرف أفضل والبقية فى مرتبة تالية؟ من صاحب المصلحة فى أن يكون هناك دائمًا صراع بين أشقاء، أو جيران يشتركون فى اللغة وأشياء أخرى كثيرة، «بلاش يا سيدى أشقاء إذا كانت المفردة لا تناسب قناعاتك العنصرية»؟

ما جناية الإمارات أو السعودية أو المغرب فى منح الجوائز المصرية لأنصاف الكتاب والفنانين، للمرضى والمحتاجين ورفاق المقهى، أو لكاتب كل ما يميزه هو ديانته، أو مواقفه السياسية؟ ما جناية لبنان أو تونس أو السودان فى تخصيص غلاف مجلة أدبية عريقة لكاتب متواضع القيمة لمجرد أنه شخص مشهور شهرة المغفور له شعبان عبدالرحيم أو حمو بيكا، تفتح علاقاته الأبواب أمام كتاباته لتتصدر المشهد السينمائى؟.. لا تقل لى إنه توجه دولة، أو عموم المثقفين فى مصر، أو هى ذائقة القراء.. هى لجان تحكيم يتم تشكيلها من أشخاص يمتهنون الكتابة والعمل فى مجالات الفنون والآداب.. هم مثقفون مصريون وصحفيون ونشطاء يتباهون على المقاهى بقدرتهم على المنح والمنع.

ما جناية الجزائر وليبيا وقطر فى تقليل الكتاب المصريين من بعضهم البعض ليل نهار، وسبهم لبعضهم البعض كلما سنحت الفرصة، وكلنا يعرف ما يدور فى جلسات المقاهى من شكاوى و«شتيمة من الكل للكل»، حتى إن أحدهم لا يتوقف لحظة عن سب كل كتاب الستينيات، شعراء وروائيين وصحفيين ونقاد، واتهامهم بمناصبته العداء ومطاردته ومحاولتهم منعه من النشر، أو الكتابة عن أعماله «الفلتة».

باختصار، ومن الآخر.. إن قوة مصر الناعمة ما زالت كما كانت دائمًا، نحن الذين لا نرى، ولا نجيد سوى البكاء على الأطلال، كثيرون وكثيرون فى كل مجالات الأدب والفن، كبار ومميزون ورواد.. لكننا نحن الذين فى قلوبنا مرض.