رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عبدالمعطى حجازى.. وقفات قاطعة وفواصل براح «3-1»

يظل ما تعرفت عليه فى المراهقة أسطوريًا، لا ينتمى لعالم الواقع.. يبدو سماويًا.. بعيدًا، كما النجوم والأحلام والتطلعات التى لا يقين من قدرتنا على تحقيقها.. هكذا كان وما زال الشاعر الكبير: أحمد عبدالمعطى حجازى. 

قرأت اسمه فى مقرر اللغة العربية فى الصف الثالث الثانوى أوائل التسعينيات. واقترن اسمه بالشاعر صلاح عبدالصبور، كرائدين لحركة التجديد فى الشعر المعاصر.

لم يكن هناك نموذج لشعر التفعيلة ولا لشعر «حجازى» فى الكتاب المدرسى. لكن الاسم والقيمة انطبعا فى عقلى وروحى. 

ومضت الأيام.. وظل اسم أحمد عبدالمعطى حجازى .. قابعًا فى خزانتى السحرية، وزاد من ابتعاده عندما رأيت صورته.. ملامحه حازمة فيها اعتزاز وشموخ، نظرته حادة ثاقبة، تخلو تعبيرات وجهه من الأريحية أو التباسط. وبرأسه الحليق تمامًا، كان كاهنًا فرعونيًا يحفظ فى قسماته إرثًا وأسرارًا تليق بكتب التاريخ. 

أعجبتنى عناوين دواوينه: مدينة بلا قلب، ولم أصدق حيرة أو شكوى الفتى القروى من المدينة.

يا عمّ..

من أين الطريق؟

أين طريق «السيدة»؟

- أيمن قليلًا، ثم أيسر يا بنى

قال، ولم ينظر إلىّ!

.. وسرت يا ليل المدينة

أرقرق الآه الحزينة

أجرُّ ساقى المجهدة،

للسيدة

بلا نقود، جائع حتى العياء،

بلا رفيق

كأننى طفل رمته خاطئة

فلم يعره العابرون فى الطريق،

حتى الرثاء!

....

لو كان فى جيبى نقود!

لا. لن أعود

لا لن أعود ثانيًا بلا نقود

يا قاهرة!

أيا قبابًا متخمات قاعدة

يا مئذنات ملحدة

يا كافرة

أنا هنا لا شىء، كالموتى، كرؤيا عابرة

أجرُّ ساقى المجهدة

للسيدة!

للسيدة! 

هذه الأناقة الباريسية فى الملابس والدقة والجزالة اللغوية فى مقاله الأهرامى، وهذه الفصاحة والفخامة فى الأداء الشعرى، لا يمكن أن تكون امتدادًا لحيرة أو توهان فتى مدينة بلا قلب، تلك ليست تجربة «إمام» فى «شباب امرأة» وليس انبهار القروى الساذج بأضواء المدينة، إنها حيرة وجودية مجازية، رغبة برومثيوس فى سرقة النار، الصعود لجبل الأوليمب، البحث عن مكان على تلة الخالدين. دعم هذه الفكرة كتاباته التى تابعتها فى الأهرام، معاركه فى مجلة إبداع، صدقت جدًا مقالته بأن لا أحد سينشر فى إبداع إلا من يستحق أو يكون جديرًا بالنشر، صدقته حتى إننى لم أحاول النشر فى المجلة التى أرتبط بها.

ومرت سنوات أطول والتقيت به منذ عامين، فى صالون حجازى فى بيت الشعر. فى بيت الست وسيلة، كنت برفقة الصديق شعبان يوسف، وكان الاحتفال بمرور ٧٠ عامًا على نشر ديوانه الأول، واستمعنا إلى قصيدته الأيقونة الطريق إلى السيدة. وتحدثت فى الجلسة عن سوء حالة تدريس ومقرر الأدب فى المناهج الدراسية.

خلال تلك الجلسة.. لم تتغير صورة حجازى فى ذهنى، ظل كاهنًا مصريًا لا يبارح غرفة الأسرار فى المعبد الكبير. 

وعندما بدأت فى تقديم برنامج «أطياف» على شبكة تليفزيون الحياة، كان أول مرة فكرت أن أستضيفه، ولكن توقيت وفاة السيدة زوجته الدكتورة سهير عبدالفتاح. حال دون أن يكون الحوار معه مفتتح حلقات البرنامج. وانتظرت حتى يحين الوقت المناسب لترتيب موضوع الحوار معه، وبمجرد معرفتى بعودته للمشاركة فى صالون حجازى حتى تواصلت مع الصديق الشاعر: السماح عبدالله كى ينقل للأستاذ هذه الأمنية، وفعلًا رحب الأستاذ بفكرة اللقاء، وتواصلت معه تلفونيًا، جاءنى صوته عبر الهاتف: رخيمًا، وكلماته منتقاة، بذوق ورقى، أداؤه رصين متباهٍ بأصالة علامته، تلونه نقاط تحدد نهايات الجمل بحسم فاخر، لكن أذنىّ التقطتا من بين نقاط الوقوف الإجبارى، فواصل معلقة، صحيح أنها قليلة، لكنها تسمح بالأمل فى امتدادات ومساحات لتواصل روحى وإنسانى أرحب مما كنت أتمنى.

واتفقنا على موعد لزيارته فى مصر الجديدة للدردشة فى محاور الحوار.

وللحديث بقية