رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«صحوة النهايات».. كيف رسم ميسى ورفاقه أجمل لوحات المونديال فى لوسيل؟

ميسى
ميسى

يطلب الكرة كثيرًا ويقطع المسافات، يراوغ ويعبر أى حاجز مهما بلغت صلابته، ويكسر أى تكتل مهما كانت كثرته، عاد ميسى يفعل ما كان يقوم به فى صباه، عاد ميسى يجول ويسحر ويمتع فى ملعب لوسيل كما كان صغيرًا، عاد ميسى وهو على أبواب السادسة والثلاثين مثل انطلاقته قبل العشرين، وكأنها صحوة الموت.

حينما وصلت إليه الكرة بالجهة اليسرى بعد منتصف الملعب بقليل، كانت النتيجة آنذاك هدفين مقابل لا شىء للأرجنتين، وكانت المباراة على مشارف الدقيقة ٧٠.

الطبيعى أن يُهدِّئ ميسى اللعب، يقف على الكرة ينتظر زملاءه، خاصة أنه كان وحيدًا، وعلى مقربة منه المدافع الأقوى فنيًا والبنيان الجسدى الأكثر قوة وحدة فى البطولة.

جفارديول ابن العشرين عامًا، الذى وصل ناديه لايبزيج، عرض بمائة وعشرين مليون يورو، من مانشستر سيتى، ويتنافس عليه كبار القوم فى كل مكان، انقض على القصير الذى لم يعد يرحمه أحد ليونيل ميسى.

باغتنا أنه قرر التقدم وتجاوز جفارديول، لكن من المؤكد أن مخزون الأخير البدنى وبرجله وبنيانه لن يسعفا ميسى فى الاستمرار حتى يصل للمرمى ويقطع قرابة ٤٠ مترًا وأكثر، مؤكدًا لو فعل ذلك لابتلعه المدافع ذو القناع المخيف والجسد المرعب.

توقف ميسى وتلاعب بجسده كراقص، وبعيون ماكرة كان يراوغ المدافع الكرواتى يمينًا ويسارًا، جال به عدة مرات فى كل الاتجاهات، ربما لم يصل جفارديول دعم طوال هذا الوقت ثقة بقدرته على إيقاف ميسى، وربما أراد زملاؤه تجنب إهانة كروية تجرى على أرض الدوحة، خاصة أن ميسى أذاقهم الويل فى الشوط الأول وجعل صورتهم مهزوزة أمام الجميع وذويهم على وجه التحديد.

تركوا جفارديول وحده، فعل به ميسى أسوأ ما يمكن فعله بمدافع، أظهره ضعيفًا كما لم يبدُ فى حياته، جعله يشعر بعجز غير طبيعى، ثم فاجأ زملاءه والجميع فى الملعب بأن ميسى الذى تسلم الكرة على الطرف وبقرب وسط الملعب، الآن تبعده خطوة عن الحارس ليفاكوفيتش، ويمرر كرة حولها ألفاريز لهدف أسطورى.

زلزال جرى فى هذه اللحظة بملعب لوسيل، علامات التعجب تكسو كل الوجوه، تساؤلات ما الذى فعله هذا المجنون تتردد بكل مكان، سجل ألفاريز لكن ولا واحد احتفل به، لقد ذهب كل الرصيد من الهتافات والأغانى والتصفيق الحار إلى ميسى، لقد كانت رائعة لن تزول من ذاكرة التانجو والعالم أبدًا، لو كنت صاحب قرار فى الدوحة، لحولت الملعب بعدها لاسم «لوسيل ميسى».

قبل المباراة كان مترو الدوحة أشبه تمامًا بمترو المرج حينما يكون الأهلى على موعد مع مباراة مهمة، ويكون هناك زحف جماهيرى تجاه استاد القاهرة.

أغنيات حماسية، وتراقص بالأجساد التى التفت ببعضها فى دوائر، ودق الطبول على كل الأبواب وجنبات العربة، فى لحظة ما ستشعر بالخوف من سقوط المترو أو تعرضه لمكروه بسبب ما يفعله هؤلاء المجانين.

لقد عايشت هذا كثيرًا مع جمهور الأهلى، لكنى أبدًا لم أرَ عجائز تجاوزوا الخمسين والستين من عمرهم، يرقصون كما المراهقين ويقفزون كما الشباب، وتلمع عيونهم حماسًا وإقبالًا وحيوية.

تعجبت كثيرًا من الشعر الفضى والأبيض الذى ساد الرءوس، وكسا بقايا اللحى المحلوقة، إنهم لا يتوقفون عن الأغانى والتنطيط، ومع كل محطة مترو يستقبلون الوافدين الجدد بحماسة أعلى، سترى اللمعة فى عيون أى محايد إثر الانبهار الذى أصابه، وستتأكد تمامًا أن تلك السيدة التى اغرورقت عيناها بدموعها، وارتسمت البسمة على شفتيها، تعيش نفس القشعريرة التى تمر بها أنت الآن، لقد فاق جمالهم خارج الملعب جمال ميسى داخل الملعب.

لم يكونوا قلة ولا استثناءً، بل كان الكبار هم القاعدة وطغوا بكثرتهم على حضور الشباب، إنهم عايشوا أجمل اللحظات مع مارادونا، وها هم المحظوظون يعيشون أروع اللحظات مع ميسى فى الدوحة.

وجدتنى أقول إنه من حسن رزق هؤلاء أنهم مروا بكل هذه العظمة، وشعور الانتشاء لسنوات طويلة، طبيعى أن يعيد لك ميسى حيويتك ويبقى شبابك، وطبيعى أن تربطهم هذه العلاقة التى ما وجدتها أبدًا بين جمهور عاشق ولاعب يبدع ويرد الجميل لبلاده.

قَزَّمَ ميسى ورفاقه الكروات فى ليلة تاريخية وأجبروا البرازيليين خصومهم المباشرين وأعداءهم التاريخيين على التصفيق لهم، فرأينا رونالدينهو يحتفل ويصفق لميسى أثناء متابعته المباراة من الملعب.

صحيح أنه صديق قديم لميسى، لكن الاحتفال بانتصار أرجنتينى فعل مجرم فى البرازيل، وهو ما جعل كاكا يقول بعد المباراة، نحن فى ريو دى جانيرو من المستحيل أن أتعاطف مع الأرجنتين.

كانت ليلة من الليالى المونديالية التى لا تنسى، والتى تدفعك دائمًا بتفاصيلها إلى التأهب وتراقب النسخ التالية فى كل مرة، تجرد لاعبو التانجو من قمصانهم، وذهبوا يحتفلون مع جماهيرهم عراة وبحماسة شديدة توازى الهيجان الذى ساد المدرجات.

فى تلك اللحظة كنت كغيرى أراقب ميسى وموقعه من الاحتفالية، وجدته كعادته يسجل مع إحدى المحطات التليفزيونية، وهى مشاهد تشعرنى بمرارة شخصية لأنى وددت فى كل مرة لو وقفت أسأل ميسى فى تلك المنطقة عقب المباراة مباشرة، لكن الأكثر مرارة وقسوة ما نطق به فى هذه اللحظات وسمعته بعد الخروج من الملعب، لقد أعلنها ميسى: «نهائى المونديال الأحد المقبل، ستكون آخر مواجهاتى فى كأس العالم».

لا يعتقد ميسى أن بمقدوره الاستمرار فى العطاء ٤ سنوات أخرى، ويظن بأنه وصل محطته الأخيرة، ليعود نفس الشعور يراودنى ويتملكنى ثانية، إنها صحوة الموت لميسى على أرض لوسيل، فهل تكون الخاتمة دموع فرح، أم بكائية تكسر قلبه وقلوب ملايين من عشاقه للأبد.