رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك العرب

لقب «ملك العرب» مثّل حلمًا للكثير من رموز المجتمع المكى قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. كان بعضهم ينظر إلى «كسرى» ملك فارس، أو «الإمبراطور» ملك الروم، ويسأل: متى يكون للعرب ملك تتوحد قبائلهم المتشرذمة والمتشتتة تحت رايته، وينشئ منهم قوة تستطيع منافسة الفرس والروم؟. وبعد بعثة النبى كانت الفكرة حاضرة أيضًا، ولعلك تذكر تلك القصة التى عرض فيها المشركون على النبى أن يملّكوه عليهم، إن كان يرغب فى ذلك، بشرط أن يتوقف عن دعوته إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام، ورفض، صلى الله عليه وسلم، ذلك، وحاول بشتى الطرق أن يشرح للعرب أنه صاحب رسالة سماوية تستهدف خلق أمة مؤمنة موحدة بالله، وليس باحثًا عن مُلك أو سلطان على جزيرة العرب. 

فكرة «المُلك» كانت حاضرة بقوة لدى العائلة الأموية، ولم ير أغلبهم فى دعوة النبى إلى الإسلام أكثر من محاولة هاشمية للسيطرة على الجزيرة العربية، وترسيم ملك من بنى هاشم حاكمًا عليها. وقد ظل الأمويون على وجهة النظر تلك حتى فتح مكة، تستطيع أن تستخلص ذلك من الحوار القصير الذى وقع بين أبى سفيان بن حرب والعباس بن عبدالمطلب، وهما يشاهدان النبى يدخل مكة فاتحًا وحوله آلاف المسلمين، قال أبوسفيان للعباس: لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيمًا. فقال العباس: ويحك إنها النبوة. فقال أبوسفيان: نعم إذن. فأبوسفيان لم يكترث لأمر النبوة، قدر اكتراثه لأمر المُلك، وكأنه كان ينظر إلى التحقيق الذى أنجزه النبى على أنه يقع فقط فى سياق الملك!. كانت تلك رؤية الأمويين للمسألة، وقد حكيت لك أن أشهر من أسلم منهم قبل الفتح هو عثمان بن عفان، رضى الله عنه، أما أغلبهم فقد أسلم بعد الفتح، وعلى رأس هؤلاء كان أبوسفيان الشيخ الأموى العتيد، وولده معاوية الشاب الطموح المؤمن بأدبيات العائلة الأموية ووجهة نظر كبارها فى ضرورة توحيد العرب تحت إمرة ملك واحد منهم. البعض يقول إن معاوية أسلم قبل الفتح وكتم إيمانه، لكن «السيوطى» فى كتاب «تاريخ الخلفاء» يؤكد أنه من مسلمى الفتح.

نظرة المسلمين من المهاجرين والأنصار كانت سلبية بعض الشىء إلى مسلمى الفتح أو من سموهم بـ«الطلقاء»، بمن فى ذلك معاوية بن أبى سفيان الذى كان من المؤلفة قلوبهم. ورغم حداثة إسلامه وعدم وجود أدوار مهمة له خلال السنوات الثلاث التى عاشها النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، اللهم إلا وجوده ضمن كتاب النبى، وكذلك خلال سنتى خلافة أبى بكر وفيها شارك فى قيادة أحد الجيوش المتحركة فى اتجاه الشام- لكن «معاوية» صعد بشكل ملحوظ خلال فترة حكم عمر بن الخطاب، أى بعد ٥ سنوات من دخوله الإسلام، حيث ولاه الأردن ثم دمشق، وفى عصر عثمان «الأموى»، أى بعد ١٥ سنة من إسلام «معاوية»، بلغ قمة تألقه حين ولاه الخليفة الجديدة على الديار الشامية كاملة.

الصعود الإدارى الذى حظى به معاوية فى دولاب دولة الخلافة بدا موضوعيًا إلى حد كبير، فقد كان يتمتع بقدرات ميزته عن كثيرين، كان أهمها إجادته القراءة والكتابة والحساب، بالإضافة إلى مهاراته الإدارية التى اكتسبها بالنشأة داخل العائلة الأموية، والأخطر ما تمتع به من وعى سياسى، وإلمام بقواعد الحكم بصورة تثير العجب والإعجاب معًا، تجد ذلك فى انعكاسات ذلك فى أسلوب إدارته الصراع مع على بن أبى طالب بعد اغتيال عثمان، فقد بدا الصراع وكأنه بين رجل سياسة «معاوية» فى مواجهة رجل دين «على»، وتجده أيضًا فى أدائه الملوكى حين كان واليًا على الشام، وبدت مظاهر ذلك فى العيش فى القصور، وارتداء أفخم الثياب، بل بدا ذلك أيضًا فى بنيته الجسدية وما تمتع به من وسامة سجلها كتاب التاريخ الذين أرخوا لسيرته.

أمور عديدة كانت تؤهل «معاوية» لأن يصبح أول ملك للعرب، لعل أخطرها ما تمتع به من حكمة سياسية مكنته من تحقيق هدفه فى النهاية، ناور سنين طويلة بقميص عثمان والمطالبة بالثأر له حتى إذا حقق هدفه فى الجلوس على كرسى الخلافة نسى كل ذلك، وعندما صرخت عائشة ابنة عثمان فى وجهه ذات يوم مذكرة إياه بالثأر لمن قتل مظلومًا رد عليها قائلًا: يا بنت أخى: إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا، سعوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندرى أتكون لنا الدائرة أم علينا؟ وأن تكونى ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إلى أن تكونى أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك». إنه وعى الملوك بمخاطر إيقاظ جيوب النقمة، ووعيهم بغضب الشعوب من مسلكهم، ومعاملة الحكام لهم بالحلم وعدم التعبير على غضبهم منهم حتى لا تثور ثائرتهم.

كثير من المسلمين الذين انحازوا إلى «على» كانوا يعلمون الرغبة الدفينة لدى معاوية فى أن يصبح ملك العرب، على رأسهم عمار بن ياسر الذى خطب فى جنود على بن أبى طالب قبل موقعة «صفين»، وكان من بين ما وصف به معاوية والمنحازين إليه: «ليس لهؤلاء القوم سابقة فى الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم، ولا الولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم بقولهم: إمامنا قتل مظلومًا، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكًا». كان «عمار» يرى أن القوم لا يبحثون عن دين، بل يفتشون عن دنيا ويريدون أن يصبحوا «ملوكًا جبابرة»، وأنهم يخدعون أتباعهم ويسوقونهم إلى الهلاك فى الدنيا والآخرة.

اكتملت دائرة التحقق الأموى الملوكى، حين قرر معاوية إحداث أخطر انقلاب فى حياة المسلمين، والتحول عن نظام الشورى فى اختيار الخليفة، إلى نظام الملك الوراثى، فأخذ البيعة من أبناء كبار الصحابة لولده يزيد، ليرث الملك من بعده، ويتواصل الحكم فى سلسال بنى أمية الذى بدأ بالملك الأول للعرب: معاوية بن أبى سفيان.