رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفيلسوف الحكيم

وُلد الحسن بن على منتصف رمضان سنة ٣ هجرية. والقارئ سيرته يلاحظ أن طفولته ارتبطت بجده النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، يدلل على ذلك الكثير من المشاهد التى يظهر فيها «الحسن» وهو يمسك بجده، أو يتعلق برقبته الشريفة، أو يقف إلى جواره وهو يخطب المسلمين على المنبر، أو يضحك والجد يداعبه، أو يقف مشدوهًا والنبى يصفه بأنه سيد وابن سيد وسوف يصلح الله به بين فئتين عظميين من المسلمين. توفى الجد الحنون وعمر الحفيد لا يزيد على ٨ سنوات، ولك أن تقدر حجم فجيعة طفل فى هذا العمر بوفاة جده، النبى صلى الله عليه وسلم، وهو الذى ارتبط به فى حلّه وترحاله، وإذا بالأقدار تختار له بعد ذلك أن يفقد أمه فاطمة الزهراء، رضى الله عنها، بعد وفاة جده ببضعة أشهر.

لم تكن شخصية الأب حاضرة فى حياة «الحسن»، رضى الله عنه فى طفولته، خلافًا للوضع فى مرحلة الشباب. فقد كان «الحسن» إلى جوار أبيه «على» أغلب الوقت، يلعب دور المستشار والناصح، لكن الأب لم يكن يسمع له، مثلما حدث حين ثار الناس على عثمان واستشهد فى أحداث الفتنة، وعرضوا الخلافة على علىّ بن أبى طالب فقبلها، فى حين نصحه «الحسن» لحظة احتدام الفتنة وقبل مقتل عثمان أن يترك المدينة، لكن عليًا أبى، ونصحه بعد استشهاد عثمان برفض الدعوة التى وجهت إليه بتولى منصب الخلافة، بسبب حالة الفوضى التى سادت المدينة، وخوفه مما يمكن أن يقال فى مثل هذه الظروف، لكن الأب لم يسمع له أيضًا. وعندما استنفر على بن أبى طالب رجاله لمواجهة الخوارج فى النهروان، جاء إليه الحسن وهو فى الطريق فقال: لقد نهيتك فعصيتنى، تقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال له على: إنك لا تزال تحن علىّ حنين الجارية، وما الذى نهيتنى عنه فعصيتك؟ فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها، لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث؟ ألم آمرك ألا تبايع الناس بعد قتل عثمان، حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس فى بيتك حتى يصطلحوا فعصيتنى فى ذلك كله؟

تمتع الحسن بن على بحكمة فيلسوف، وقدرة خاصة على فهم البشر والقراءة العميقة للأحداث التى تتفاعل من حوله، علاوة على رؤية ثاقبة للحياة، وفهم رائق للعيش. تبلورت رؤية الحسن حول «نظرة قدرية» إلى الحياة وما يتعاور فيها من أحداث، ومن يسعى على مسرحها من شخصيات. كان له رأى خاص فى مسألة الفتنة التى وقعت بعد ما حاصر الثوار دار الخليفة عثمان بن عفان، ملخصه ألا يتورط آل بيت النبى فى الأمر من قريب أو بعيد، وأن يترك أبوه المدينة، ولما أبى واغتيل عثمان نصحه بعدم قبول الخلافة فى هذه الظروف، وتوقع اغتياله هو الآخر، لكنّ عليًا لم يسمع، وعندما حدث ما توقع كان من الحكمة بحيث لم يقع فى الخطأ الذى حذر أباه من الوقوع فيه، فانسحب من المشهد برمته، وابتعد تمامًا عن معارك السياسة، كان يسمع هجوم شيعة أهل بيت النبى عليه، ووصفهم له بـ«مذل المؤمنين» حين تصالح مع معاوية وترك له الخلافة فيصفح عنهم. 

يحكى صاحب كتاب «الإمامة والسياسة» أن «سليمان بن صرد» دخل على الحسن فقال له: السلام عليك يا مُذل المؤمنين، وسأله كيف تنازل عن الخلافة ووراءه مائة ألف من العراق غير من يؤيده من أهل البصرة والحجاز، فرد عليه الحسن ردًا طويلًا، من أبرز ما جاء فيه «أشهد الله وإياكم أنى لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، مع أن أبى كان يحدثنى أن معاوية سيلى الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا معقب لحكمه، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلى من أن تعزوا وتقتلوا».

تمكنت فكرة الإيمان بقضاء الله وقدره من شخصية الحسن بن على، ورجحت كفة الحياة عنده على كفة الحرب والقتال، بما يخلفه فى دنيا البشر من آلام وأحزان. فسعادة الروح بالنسبة للحسن كانت أحب وأبقى، وقد وجدها فى حمد الله وشكره، والتبتل فى محراب عبادته، والسير على الأقدام ٢٥ مرة لحج بيته الحرام، وصيام النهار وقيام الليل. كان الاستمتاع بما أحل الله للإنسان من مباهج ومسرات تحيى الحياة أحب إليه من القتال والعراك وتحمل مسئولية الدماء المهدرة، والأطفال اليتامى، والأمهات الثكلى، والزوجات المترملات. تزوج الحسن بن على كثيرًا، يذكر جلال الدين السيوطى فى كتابه «تاريخ الخلفاء» أن «الحسن» تزوج ٩٠ مرة، وكان أبوه «على» يصفة بأنه مزواج مطلاق، وكانت أى أسرة يخطب منها ترحب بذلك، رغم علمها بطبعه الملول، رغبة منها فى النسب والنسل الشريف. 

توقف بعض أصحاب التفكير السطحى متعجبين أمام شخصية سبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتعجبوا من ميله إلى الزواج والطلاق والاستمتاع بما أحله الله. ذات يوم جاء من يقول له: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلىّ من الغنى، والسقم أحب إلىّ من الصحة، فقال الحسن: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن أنه فى غير الحالة التى اختارها الله له، وهذا حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء.

أقدار الحياة يرسم خرائطها خالق الحياة.. وكمال الحياة فى الرضا بما اختاره الله للإنسان.