رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية «البقاء لله»

«البقية فى حياتك».. «حياتك الباقية»، عبارتان شائعتان فى الثقافة الشعبية يتم تداولهما فى الحداد عند تلقى العزاء، ولأن الدين حاضر بقوة عند الموت، فإن كل المتدينين يستهجنون استخدام هذا النوع من العبارات، ولهذا لم تعد هذه الصيغة التقليدية مستخدمة فى كثير من المجتمعات العربية خاصة فى ظل انتشار المد الدينى بقوة تحت تأثير الحركات الإسلامية، وحلّت محل العبارات الشعبية المتداولة عبارات أخرى دينية من قبيل «البقاء لله»، و«عظم الله أجركم»، و«مأجورين».. إلخ، على اعتبار أن البقاء لله وحده، وكما يقول المتدينون الإسلاميون إن تعبير «البقية فى حياتك» ينطوى على شرك بالله!

ومن يتأمل رؤية العالم لدى كثير من الناس على اختلاف مواقفهم من الدين سوف يجد أن رؤاهم للحياة تنطوى على ثلاثة جوانب يشتركون فيها، وهى:

أولًا: إنهم يدركون حقيقة الموت وحتميته فى الحياة.

ثانيًا: إنهم يخشون من الموت صراحة أو ضمنًا مهما صرحوا بغير ذلك.

ثالثًا: إنهم يتمنون فى قرارة أنفسهم البقاء ويتطلعون إلى أن تستمر بهم رحلة الحياة أطول فترة ممكنة إلى حين، مع يقينهم بأن الحياة مهما طالت فإنها سوف تنتهى. وهذا يفسر سعى كثير من الناس فى حياتهم إلى الخلود الرمزى بأن تظل ذكرى الميت حاضرة لا تموت مع الزمن، وهذا واضح فى معانى العزوة والعائلية والقبلية والمجد الشخصى والشهرة حتى بعد موت الشخص وفناء جسده.

ومن ثم فإن كلمة البقاء فى ثقافتنا الشعبية لا تعنى الأبدية- كما فهمها الإسلاميون- وإنما تعنى الامتداد خلال الانتقال بين الحياة والموت، على اعتبار أن الحياة ما هى إلا بقاء لمدد محددة تختلف من شخص لآخر، وما إن تبدأ الحياة بمولد طفل تستمر لأمد محدد ثم تنتهى بالموت لتبدأ حياة جديدة فى حلقات متصلة داخل هذا الوجود، وحين نحيا فإننا ننعم بقدر أو نصيب من البقاء طول أمد الحياة، وهكذا يصبح التطلع للبقاء رغبة وجودية بأن يمتد بنا العمر لفترة أطول من الزمن.

وهذا ما تنطوى عليه عبارة «البقية فى حياتك» وتلحق بها عبارة «البركة فيك» باعتبارها دعاءً وأمنية للشخص عند الحداد لمواساته للتخفيف عنه من ألم الفراق ومحنة التعلق بالمحبين والمقربين بأن يتمتع بما تبقى له من حياة تعويضًا عما فقده من أشخاص مقربين وأعزاء عليه، يأتى ذلك من منطلق الدور الذى يلعبه تراث الحِداد فى تمكين الأحياء من تجاوز صدمة الموت، والمواساة بأننا فى رحلة الحياة كأوراق الشجر ينمو بعضها ويسقط بعضها لتنمو أخرى فى متوالية مستمرة بين الحياة والفناء.

ونظرًا لأن قواعد التبادل الاجتماعى فى الحياة اليومية تستوجب على الشخص الذى يتلقى التحية أو الهدية أو الدعاء أو العزاء بأن يرد بأحسن منها لكى تستمر وتتعمق الروابط الاجتماعية، فإن الذى يتلقى العزاء يرد على المعزى له بأفضل عبارات التعزية بالقول: «حياتك الباقية»، بمعنى تمنى أن يحظى الشخص المعزى بنعمة البقاء، أى طول العمر.

وهكذا تغيرت عبارات التعزية التقليدية وأصبحت ذات طابع إسلامى، واستغرقت عملية محو هذه العبارات من التراث الشعبى قرابة ثلاثة عقود من الزمن دون أن تغير كثيرًا من رؤى العالم لدى كثير من الناس. وما حدث يبرهن على أن صراع الحركات الإسلامية فى تغيير المجتمع لم يكن قاصرًا على القاموس اللغوى فى ذاته بقدر ما كان يستهدف تغيير العقل الجمعى بالسيطرة على منابعه داخل الذاكرة الجمعية، وتم ذلك فى إطار سعى الحركات الإسلامية الدءوب لاستعادة ما يطلق عليه «المجتمع الإسلامى المتخيل» الذى كان سائدًا فى عصر النبوة.

والمثير للتأمل أن الحركات الإسلامية التى بدأ نموها فى السبعينيات من القرن الماضى انحسرت الآن وتقلص وجودها فى المجال العام إلى حد كبير، ومع ذلك بقى تأثيرها فى قلب المؤسسات الدينية الرسمية، بحيث إذا أردت تقديم واجب العزاء لأحد شيوخ الأزهر أو الأوقاف أو الإفتاء وقلت له: «البقية فى حياتك يا شيخنا»، سوف يرد عليك غاضبًا بامتعاض: «البقاء والدوام لله يا أخى فى الله».