صلاح عساف: ميزة أدب محفوظ قدرته على عبور الزمن.. ويمكن قياس حركة المجتمع من خلالها
في كتابه “عطر نجيب محفوظ” والصادر في طبعة ثانية عن دار نشر " اكتب" يتعرض المبدع صلاح عساف للكثير مما أبدع وتفرد واختلف به الكاتب الراحل نجيب محفوظ، فما بين الوقوف على حواف الوجود والعدم والدهشة والمباغتة بل والحزن والفرح فيما وراء كافة أعمال نجيب، يأتى صلاح عساف ليقطر تلك المراحل الأثيرة، والذي حاولنا وفي زكرى رحيل " النجيب" السادسة عشر طرح الكثير من رؤى ومسارات وجدوى ذاكرة الكاتب وتأملاته في الزمن والمكان بل والوجود..ورغم صدور عشرات الأعمال النقدية والتسجيلية والحوارية لمسار وتهج وحوليات نجيب محفوظ إلتقت الدستور بالمبدع صلاح عساف ليحدثنا عن جديده في " عطر مجيب محفوظ وماهو الجديد الذي يحمله المؤلف عن رؤية " محفوظ لمجتمعه وماذا سبقى من أعماله..
سألته بداية.
لماذا العطر وكيف بدأ؟
حين تقرأ نجيب محفوظ ستعلق بذاكرتك عبارات لها وقع السحر والدهشة، ومن حين لآخر تطفو على سطح الذاكرة تعيدك إلى حالة القراءة الأولى وزمنها،وتكون دافعا لإعادة القراءة مرة أخرى لتكتشف أنك كما لو كنت تقرأ ما قرأته سابقا لأول مرة،حتى تصل إلى تلك العبارة التي ظلت عالقة لا تغادر الذاكرة.
حدث ذلك معي أكثر من مرة ومع أكثر من جملة ومع أكثر من عمل، ما حفزني ودفعني إلى قراءة جميع نتاجه السردي رواية وقصص قصيرة، مستكشفا ومستخلصًا تلك العبارات الموحية ذات الشأن، والتي لا يمكنك عبورها دون توقف أو تأمل.
وهكذا وجدتني أمام ذخيرة وفيض من الصياغات المُحكَمة التي تقطر فيها الكلمات - مثلما يقطر العطر- حتى تصل إلى المعنى دون ثرثرة أو استطراد، وإزاء هذه الثروة المستخلصة المنتقاة نشأت فكرة استثمارها وتبويبها في كتاب.
وماهو الدافع وراء اختيارك لـ نجيب محفوظ؟
يمكنك تلمس حركة المجتمع وتطوره سواء أكان تطورا أو تدهورا، والمشكلات التى عانى ومازال يعاني منها هذا المجتمع في كتابات نجيب محفوظ، بحيث يمكنك دون مبالغة أن تطلق عليه جبرتي عصرنا. وسوف تعجب من أن معاناة شخصياته ومشكلاتها مع مجتمعها، مازالت هي نفسها معاناتنا ومشاكلنا مع مجتمعنا. ولسوف تتأمل بمزيد من الأسى والحزن رسوخ هذه المشكلات فى الوعي الجمعي لمجتمعنا، ناهيك عن تراجع وانحسار بعض القيم التى كانت موجودة في الماضي ولم تعد موجودة الآن.
إضافة إلى ذلك أن أدب نجيب محفوظ يتميز إلى جانب قدرته الفائقة على التأريخ الاجتماعي للمجتمع المصري في جميع تحولاته، ببُعد آخر هو مقاربة الهم الوجودي وأسئلة الإنسان الكبرى كالموت والعدل والشك والإيمان والحرية والكرامة والاختيار الحر والعدم أو الفناء أو الموت والخطيئة وغيرها،شأنه في ذلك شأن شكسبير وسيرفانتس دوستويفسكي والمعرّي.وتلك أهم ما يميز كتاباته، هم الوجود الإنساني متضافرة مع الهم الإجتماعي.
بعد ستة عشر عاما على رحيل أديب نوبل، ماذا يتبقى من نجيب محفوظ؟
أتصور أن من عناصر القوة في أدب نجيب محفوظ هي قدرته على البقاء. هو أدب يمتلك ميزة عبور الزمن.
لقد أتاحت لنا وسائل التواصل الاجتماعي إمكانية الحكم على ذلك، مازال القراء يبدون اعجابهم وملاحظاتهم على رواياته من خلال مواقع تصويت القراء والجروبات الأدبية والمهتمين بالقراءة. وبقدر ما ساهم نجيب كسيناريست محترف فى إهداء السينما المصرية العديد من السيناريوهات الحرفية المتميزة ، بنفس القدر أو أكثر قليلا ساهمت السينما في تحويل أعماله إلى أفلام شهيرة وذات تأثير كبير. على الرغم من بعض التناول القشري لهذه الأعمال والتعامل مع الطبقة الظاهرة السطحية لها.
ولعل الجدل الدائر الآن بخصوص أغلفة طبعات أعماله الجديدة والتى تولتها دار نشر جديدة، ومحاولة جذب ومخاطبة فئات عمرية شابة من خلال تصاميم وألوان اغلفة بدت للبعض غريبة وصادمة، لعل ذلك ومؤكد أنه يشير إلى كسب مساحات وطبقات من شباب القراء من الأجيال حديثة العهد بالقراءة والتعرف إلى أدبه. ما من شك أن أدب نجيب محفوظ عابر للزمن بما يملكه من قوة وثراء وعمق فى اجتراح مشكلات وأزمات وعي الانسان المعاصر. من سينسى ملامح وأزمات أبطال رواياته مثل السيد عبد الجواد أو كمال أو فهمى وياسين عبد الجواد في الثلاثية، من ينسى محجوب عبد الدايم وعلى طه فى القاهرة الجديدة، وسيد الرحيمي فى الطريق وعمر الحمزاوي في الشحاذ وعيسى الدباغ فى السمان والخريف، ومنصور باهي في ميرامار وجعفر الراوي في قلب الليل، من سينسى الحرافيش وسحر ليالي ألف ليلة.
ليتك تطرح لنا رؤيتك الذاتية لطرحك المغايرعن الكتاب " عطر نجيب..؟
يذهب بي الظن إلى أن ما وقع لي مع أدب نجيب محفوظ ، قد جرى مثله مع الغالبية من قارئيه – بشكل أو بآخر – فتساءلت كيف يمكن إعادة تجميع شظايا هذه الأعضاء المتناثرة معا لتشكل قواما وجسدا واحدا ؟ . .. من هنا بدأ العمل على هذه المختارات بجمعها وإعادة تصنيفها وفقا لما تشير إليه كل جملة أوعبارة من معنى، ووضع عنوان مناسب لهذا المعنى، ومحاولة ترتيب العبارات والجُمَل داخل هذا العنوان بحيث تتقارب الإشارات التي تحتويها كل عبارة إلى هذا المعنى بقدر الإمكان ،.. وهكذا تجمع لدينا العديد من العناوين الفرعية التى اندرجت داخلها هذه العبارات، ويبقى أن تنتظم هذه العناوين الفرعية داخل عنوان أشمل وأعمّ ، ومن هنا جاءت عناوين الفصول التى تحتوى هذه العناوين الفرعية .
وغنى عن القول أن قدرا كبيرا من المقاطع التى يحويها هذا الكتاب جرت على لسان شخصيات روائية وبعضها كان تعبيرا عما يجول في خاطر هذه الشخصيات، وبالتالى لا يمكن أن تُعزى هذه العبارات وما تنطوى عليه من معتقدات ومفاهيم إلى نجيب محفوظ نفسه باعتبارها معتقداته ومفاهيمه، إذ يمكنك أن تجد الفكرة ونقيضها على ألسنة العديد من شخصياته.
