رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المُفكر التونسى عبدالمجيد الشرفى: الإسلام السياسى عاد بالمجتمعات العربية قرنًا إلى الوراء ولا مستقبل لجماعاته على الإطلاق

المُفكر التونسى عبدالمجيد
المُفكر التونسى عبدالمجيد الشرفى

مستقبل الأديان رهين قدرة السُنن الدينية على التعايش مع الحقائق العلمية

متفائل بحُسن تقبُّل الأجيال الصاعدة الفكر النقدى الذى يضع السُنن التقليدية على المحك

الإيمان الحر يفرض نفسه على كل المجتمعات متى تخلصت من التقليد الأعمى والتبعية

المؤسسات الدينية تخوض معارك خاسرة سلفًا على المديين المتوسط والبعيد

يحتفظ المفكر التونسى عبدالمجيد الشرفى بتاريخ طويل فى مضمار نقد الفكر الدينى الإسلامى، إذ تطرّق عبر مؤلفاته إلى معركة الدين الماضية والراهنة مع الحداثة وأسبابها وما نجم عنها، راسمًا ملامح مشروعه التأويلى فى قراءة النص الدينى عبر استخدام المناهج الحديثة دون التقيّد بالفهم التقليدى والمتكلّس للنصوص، وبرؤية واسعة تنظر إلى الإسلام فى نطاق الظاهرة الدينية ككل. 

يسهم أستاذ الحضارة العربية بالجامعة التونسية من موقعه فى مواجهة نيران العنف والتطرف الدينى التى يحترق العالم بلهيبها، عبر مؤلفات من أبرزها «الإسلام والحداثة»، و«مرجعيات الإسلام السياسى»، و«البداهات الزائفة فى الفكر الإسلامى»، و«الإسلام بين الرسالة والتاريخ». 

ينطلق هذا الحوار من مؤلفات الشرفى وجهده اللافت فى نقد الفكر الدينى قراءة معطيات الواقع الراهن فيما يتعلق بالظاهرة الدينية. واستنادًا إلى ذلك، نناقش الآفاق المستقبلية المحتملة لتوظيف الخطاب الدينى تحقيقًا لأهداف سياسية فى العالمين الغربى والعربى، واحتمالات سيادة الفكر الدينى المنفتح بالمستقبل لا سيما بعد ما مرّ به العالم العربى من اختبار قاس لتعاشق الدين والسياسة، والتحديات التى سيتعين على الفكر الدينى مواجهتها للعبور نحو أفق دينى رحب بالمستقبل. 

 

■ صدر لك حديثًا كتاب «البداهات الزائفة فى الفكر الإسلامى» وفيه تفحص الأفكار المغلوطة التى ارتبطت بالدين على مدار التاريخ وقلت إنه موجه لغير المختصين و«مساهمة فى النقاش العمومى الذى يدور على الساحة العربية والإسلامية».. انطلاقًا من هذا الجهد أود سؤالك: إلى أى مدى تُقيّم درجة الانفتاح فى الوقت الراهن على تقبُل عامة الناس الأطروحات النقدية فى الفكر الدينى مقارنة بسنوات ما قبل «الثورات العربية»؟ وما العوامل التى تظنها ذات أثر بالغ وواضح فى هذا الصدد؟ 

- مَن يزرع اليوم لا يمكن أن يحصد بداية من الغد، فلا بد من مرور فترة، قد تطول وقد تقصر، حتى تتوافر الظروف لكى يعطى الزرع أكله. المشكل فى بلداننا أنه لا نظام التعليم ولا الإعلام المسموع والمرئى يساعد الشباب فى تفهم ماضيهم وحاضرهم ويسلحهم بأدوات التفكير الحر واستقلال الشخصية ورفض الوصاية مهما كان مأتاها، أى يؤهلهم لمواجهة تحديات المستقبل. ومن المسلّم به عند المؤرخين وعلماء الاجتماع أن تطور الذهنيات فى أى مجتمع تطور بطىء، ونسقه غير نسق التغييرات المادية التى هى من هذه الناحية أسهل، ولا تؤثر فيه العوامل السياسية المباشرة فقط، بل كذلك العوامل الديمغرافية وأنماط الإنتاج والمحيط الجغراسياسى... إلخ. 

أما الثورات العربية فقد أجهضتها القوى المستفيدة من الاستبداد بما لها من إمكانات مادية ودعائية ضخمة، وذلك لأنها كانت تخشى عدواها، فشجعت بكل الوسائل الإسلام السياسى الذى عاد بالمجتمعات العربية قرنًا إلى الوراء، مستجيبة فى الآن نفسه لمخطط إسرائيلـى- أمريكى يرمى إلى مزيد من تفتيت الكيانات العربية الهشّة التى أقامتها سايكس- بيكو على أنقاض السلطنة العثمانية، أو نخرها الاستعمار منذ القرن التاسع عشر بالخصوص. لكنّ الشعوب التى انتفضت ضد الاستبداد لن ترضى- طال الزمان أو قصر- بغير الحياة الكريمة.

لهذا السبب فإنّى متفائل بحسن تقبل الأجيال الصاعدة للفكر النقدى الذى يضع السُنن التقليدية، الدينية وغير الدينية، على المحك، لا سيما وأن وسائل الاتصال الحديثة تُطلعها آنيًا على تجارب الآخرين ونجاحاتهم المادية والمعنوية، فلن ترضى إلا بأن تكون فى مستوى الذين حققوا تلك النجاحات.

■ «كيف لمسلم القرن الحادى والعشرين أن يفلت من قيود التأويلات المتكلسة للنصوص الدينية».. ما جوابك عن هذا السؤال الذى طرحته إن وضعنا فى الاعتبار سطوة المؤسسات الدينية وتعنتها فى مجابهة أى فكر كاشف لهذه التأويلات المُتكلسة وما نجم عن ذلك من «تغليب مقتضيات التنظيم الاجتماعى على الضمير الحر» كما أشرت من قبل؟

- تخوض المؤسسات الدينية معارك خاسرة سلفًا على المدى المتوسط، لا البعيد فقط. وهى تخوض هذه المعارك دفاعًا عن مصالحها وعن الأنظمة التى تضمن لها الوجاهة الاجتماعية والمنافع المادية. وفى رأيى أن مصير مقاومتها الفكر الحر مرتبط إلى حد بعيد بمصير الأنظمة السياسية غير الديمقراطية التى تلجأ إلى الدين لإضفاء الشرعية على استئثارها بالحكم، كما هو الشأن عبر التاريخ الحديث والمعاصر بالنسبة إلى البلاد الإسلامية وغير الإسلامية سواء بسواء، فالإفلات من قيود التأويلات المتكلسة للنصوص الدينية لن يكون إلا ثمرة الجهد فى إرساء الحريات الفردية والجماعية.

■ تتنبأ بعض البحوث بأن مستقبل الأديان لن يكون مزدهرًا، وأن جيلًا جديدًا من الشباب قد يتخذ من التطور التكنولوجى دينًا له.. إلى أى مدى تتفق مع ذلك الطرح؟ وهل يمكن اعتبار ارتفاع وتيرة الإلحاد بمثابة مقدمة لذلك المستقبل؟

- لا توجد إلى الآن فلسفة واحدة أو أيديولوجيا تعوّض الدين وما يوفره من راحة نفسية وتوازن فى شخصية الأفراد والمجموعات. والتطور التكنولوجى من باب أولى وأحرى لا يمكن أن يأخذ مكانة الدين ويحلّ محله. على أن الإلحاد هو ذاته نوع مخصوص من الإيمان. ومستقبل الأديان قد يكون رهينًا لا بالتطور التكنولوجى، إذ هو فى نهاية الأمر مادى بحت، بل بمدى قدرة السُنن الدينية الكبرى على التعايش مع الحقائق العلمية التى تنسف رؤية العالَم التقليدية. 

■ إلى أى مدى يمكننا القول إن مآزق الخطاب الإسلاموى قد أبانت عن نفسها فى تجربة الإسلام السياسى بالسنوات الأخيرة ما يجعلها ورقة محترقة غير قابلة للظهور مستقبلًا؟ 

- جوابى دون تردد قد عبّرتُ عنه أكثر من مرة: إنه لا مستقبل البتة للإسلام السياسى. والظروف التى ظهر فيها وانتشر، كما العوامل على احتلاله «وسط الميدان» فى اللعبة السياسية تغيرت أو هى بصدد التغير، سواء على الصعيد الداخلى أو على الصعيد الخارجى. 

■ أشرت فى كتابك «مرجعيات الإسلام السياسى» إلى الدور الذى لعبه المد الوهابى فى دعم الإسلام السياسى وتقوية شوكته وتعميم أفكاره فى البلدان العربية.. فما التأثير الذى تتوقعه جراء التراجع الراهن للوهابية على الدول العربية لا سيما على صعيد تمظهرات ذلك الفكر؟ 

- تراجع الوهابية والضيق المتزايد للمجالات التى كانت ترتع فيها الحركة الإخوانية لا بد أن يؤثرا إيجابًا على تمظهرات الفكر الإسلامى. والمواطن العربى صار يشعر أكثر فأكثر بزيف الخيارات التى كرّستها هاتان الحركتان. وفى ميدان الفكر بالذات تبدو الحاجة إلى مقولات تقطع مع موروث عصور الجمود والانحطاط، وكذلك مع موروث القرون الإسلامية الأولى التى كانت مقوماتها مختلفة عن مقومات عصرنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبالأخص المعرفية.

■ هل تتوقع تعاظم استغلال الخطاب الدينى فى الغرب لتحقيق مصالح سياسية خاصة فى ظل تصاعد اليمين المتطرف بالغرب؟ 

- أرجح أن فقدان الغرب لتفوقه المطلق لفائدة الصين بالأخص، ولفائدة الهند والشرق الأقصى، ستكون له تبعات مهمة على كل الأصعدة. والغرب على كل حال يعيش وضعًا ديمغرافيًا يفرض عليه التعامل بإيجابية مع الأجيال القادمة من الجنوب ومع عقائدها بما فيها الإسلام. أما استغلال العواطف الدينية لتحقيق مآرب سياسوية فسيستمر لا محالة ولكنه محكوم عليه بأن يكون هامشيًا ودون تأثير كبير فى التوجهات السياسية العامة التى تحكمها المصالح قبل كل شىء.

■ قلت إنه «لا يمكن للدين أن يبقى حيًا دون أن تتغير أشكال التدين وتتطور لملاءمة مقتضيات العصر»، ومن ناحية ثانية فإن «أشكال التدين المعاصرة أو البديلة لا توفر الطمأنينة (اليسيرة) التى يبحث عنها إنسان عصر القلق الوجودى».. كيف يمكن التغلب على تلك الإشكالية ومواجهتها؟

- ليس ما قلتُه من باب الرجم بالغيب، بل إن أشكال التدين فى الإسلام كما فى غيره لا تنفك تتغير إن قليلًا أو كثيرًا، خلافًا لما هو شائع فى الضمير الدينى. وإذا كانت تحديات العصر الراهن أخطر من سابقاتها فإن المنزلة الإنسانية هى التى تُكره الإنسان على المحاولة المستمرة للملاءمة بين عناصر الطمأنينة وعناصر القلق، ولا يكون ذلك إلا باختيارات واعية فى العدول عن الأوهام، وبالتشبع بثقافة النسبية.

■ إن كان العالم يحيا فى مرحلة ما بعد الحقيقة وربما ما بعد الإنسان.. ما المآل الروحى المنتظر للإنسان فى المستقبل؟ وهل من دور للدين فى إنقاذه من هاوية التوحش المادى؟ 

- لستُ من الذين يَجرُون وراء التقليعات المبثوثة هنا وهناك، ومنها القول بما بعد الحقيقة وما بعد الإنسان. الثابت هو أن قوى جبارة تعمل على تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء وبين الأقوياء والضعفاء، ومن بين ما تذيعه بين الناس أننا مقبلون، عن طريق الذكاء الاصطناعى، على نهاية البشرية بمواصفاتها المعروفة إلى حد الآن. وإذا كان هناك فى نظرى خطر يهدد البشرية فهو آت لا محالة من الجشع والاستغلال والقهر وانتهاك الحقوق المشروعة للإنسان والطبيعة. ومتى سمح التدين الصادق بالسمو الأخلاقى فذلك مرادف للابتعاد عن اعتبار المادة كل شىء فى الحياة والقيمة الوحيدة التى تستحق أن يُفنى فيها الفرد طاقاته.

■ هل الوصول إلى «الإيمان الحر» فى عصر ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية مطروح فى العالم العربى أو ممكن؟ ولم؟

- وهل سكان العالم العربى من طينة أخرى غير طينة سائر البشر حتى يشذّوا عن الخضوع لنفس قوانين العمران البشرى؟ فالإيمان الحر هو الأفق الذى يفرض نفسه على كل المجتمعات متى تخلصت من التقليد الأعمى والتبعية. على أنى لا أؤمن بما يسمى بَعد الحداثة أو بَعد العلمانية. فالنمط الحضارى الذى نشأ فى الغرب، ثم شاع فى كل أقطار الأرض وأصبح بذلك كونيًا، ما زال قائمًا بمزاياه وإنجازاته المادية والمعنوية، وبعيوبه ونقائصه ومخاطره. 

أما ما يقال إنه عودة الدينى وما بعد العلمانية فهو فى جوهره ردّة فعل على شيوع الظاهرة العلمانية التى تكتسح كل المجتمعات بما فيها الإسلامية فى العمق وبكل ثبات دون أن يكون معترَفًا بها. أمّا إذا كان المقصود بهذَيْن «البَعدَين» أن الملكات البشرية الأخرى، من قبيل الخيال والرغبة والمتعة الفنية وغيرها، غير العقل وحده، ينبغى أن تأخذ حظها فى الاعتراف بتأثيرها فى السلوك والتفكير، فذلك بالتأكيد أمر إيجابى، لكن ليس فيه لا قبل ولا بعد.