رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«زغرودة» فى الطريق إلى «النبى الغالى»

كما فقد العديد من الأحداث بهجته، فقد الحج الكثير من طقوس بهجته، بعد أن تحوّل موكبه من قافلة جمال تنقل الحجيج إلى باخرة تمخر فى عباب البحر. ظل موكب المحمل يخرج من مصر طيلة العصر الملكى، وظلت مصر ترسل كسوة الكعبة بصورة منتظمة، حتى توقفت هذه العادة تمامًا عام ١٩٦٢.. قبل هذا التاريخ بعقود كانت الجمال كوسيلة لنقل الحجيج قد اختفت تمامًا، وحلت محلها الباخرة التى تحمل وفد الحجيج من بر مصر إلى الأراضى المقدسة بالمملكة العربية السعودية، ثم ظهرت الطائرات كوسيلة أكثر راحة للحج، وعملت إلى جوار السفن ردحًا من الزمن، حتى تراجعت فكرة ركوب البحر كوسيلة للوصول إلى مكة.

لم يعد الحج موكبًا ولا قافلة يجتمع فيها الحجيج ليتحولوا إلى كتلة واحدة فى مواجهة مخاطر السفر فوق ظهور الجمال عبر الصحراء، وأشدها هجمات الأعراب، لكن المصريين لم يتحوّلوا عن ثقافتهم الاحتفالية بهذا الحدث. فما إن يعلن عن أن فلانًا اختاره الله للحج هذا العام، انطلاقًا من قاعدة شعبية تقول إن «الحج للموعودين»، حتى يبادر كل أصدقائه وأقربائه إلى زيارته والمباركة له. 

الموعود بالحج أيضًا كان يتحرك، خصوصًا فى القرى، ليسلم على أهله وأحبائه ومعارفه، مع وعد بالدعوة لهم فى البيت الحرام، ويوم الانطلاق فى الرحلة المباركة تدوى الأصوات بالزغاريد وتلهج الألسنة بالدعاء للحاج بالسلامة، وتمتد الأيدى إلى السماء راجية الخلّاق الكريم بأن يمن عليهم بالحج إلى بيته الحرام، وزيارة قبر النبى، صلى الله عليه وسلم، وأحيانًا ما كانت تزف فرق الموسيقى والإنشاد الحاج عندما يخرج من بيته وتسير معه حتى يستقل الباخرة التى ستقله إلى السويس. ولو أنك رجعت إلى فيلم «بنت الأكابر»- إنتاج عام ١٩٤٦- فستجد أنه وثّق طقس «زفة الحاج» على صوت ليلى مراد وهى تغنى «يا رايحين للنبى الغالى».

كان الباشا جد «ليلى» فى فيلم «بنت الأكابر» سيحج بالطائرة، خلافًا لمشهد الحج الذى اشتمل عليه فيلم «المصرى أفندى»- إنتاج عام ١٩٤٩- حين قرر البطل حج بيت الله حتى يغسل نفسه الموجعة بفقد الأولاد، فيمتطى ظهر الباخرة لتمخر فى عباب البحر حتى تصل إلى الأراضى المقدسة، حيث يستغرق فى الدعاء والاستغفار.. يظهر فى مشهد الباخرة صوتها وهى تصدر صفيرًا طويلًا إيذانًا ببدء الرحلة، وهو أحد الطقوس المحببة للمصريين فى ذلك الزمان.. أطلق البسطاء حينذاك على صفير الباخرة «زغرودة الباخرة»، فبعضهم كان يعكس فرحته بالحج على كل شىء حوله، بما فى ذلك الباخرة التى تطلق زغرودة فرحًا بانطلاقها إلى الأراضى المقدسة، وما أكثر ما كانت زغرودة الباخرة تضيع وسط زغاريد السيدات المعبرات عن الفرحة بانطلاق الرحلة المباركة، كما كان يحكى الآباء والأجداد.

حجاج الباخرة يسافرون أولًا إلى السويس، ومن هناك يركبون البحر من ميناء السويس القديم، ليتهادى الركب حتى يصل إلى الأراضى المقدسة، وقد شاع الحج بالباخرة أواخر القرن التاسع عشر، وعلى وجه التقريب خلال فترة حكم الخديو توفيق، ولم يزل بعض المتشوقين إلى الحج أو العمرة يلجأون إلى هذه الوسيلة التى تقل تكلفتها عن الطائرة، ولم تخل هذه الوسيلة من مخاطر ترتبط بتقلبات البحر، بالإضافة إلى ما كان يلاقيه الحجيج من عنت وتعب، خصوصًا عندما يصلون إلى الميناء الذى يستقبلهم على الضفة الأخرى من البحر الأحمر ليأخذوا طريقهم إلى مكة، لكن يبقى أن ركوب البحر كان أكثر أمنًا من ركوب البر، خصوصًا فى تجنيب الحجيج الهجمات التى لم تكن تتوقف من الأعراب وقطّاع الطريق.

إنها رحلة تعب، لكن الجائزة التى يمنى الحاج بها نفسه فى نهايتها بالصلاة فى البيت الحرام، وزيارة قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانت تهون الصعاب، وكما حكى الآباء والأجداد فإن أغلب الحجيج كانوا يسترجعون، كلما مر بهم ظرف صعب أو واجهوا المتاعب، ما عاناه النبى، صلى الله عليه وسلم، حين قطع الطريق من مكة إلى الطائف «١١٠ كيلومترات على وجه التقريب» حتى يدعو أهلها إلى الإسلام بعد أن بات مطاردًا فى مكة، وحين قطع رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة «حوالى ٣٨٥ كيلومترًا» وما كابده من مصاعب ومتاعب وهو يقطع الطريق فى الصحراء وبين شعاب الجبال. كان قاصد بيت الله الحرام يتذكر كل هذا فتهون عليه المشاق والمصاعب ليكتمل البناء الإيمانى للمسلم الذى يخوض هذه الرحلة.

رحلة العودة من الحج لم تكن تقل مشقة عن رحلة الذهاب، وكان يهوّن منها حفاوة الاستقبال والترحاب الذى يلقاه الحاج من أهله وأحبائه.. فقبل عودة من فاز بأداء الفريضة كانت الأسر تستعد فى الماضى استعدادًا خاصًا، خصوصًا الأسر البسيطة، فالبيوت لا بد أن تُنطف بشكل خاص وتُدهن حوائطها ومداخلها لتليق باستقبال العائد المعفر بتراب الأراضى المقدسة، والنقاشون والرسامون لا بد أن يُظهروا فنهم فى رسم الكعبة والجمل والسفينة على مدخل البيت فى إشارة إلى الحدث الجليل، وما إن يطأ الحاج أرض الحى الذى يسكن فيها حتى يلتف حوله من يعرفه ومن لا يعرفه، يسلمون عليه ويباركون له، ويتمنى لهم ويتمنون لأنفسهم الفوز بما فاز به. والمقتدر من الحجاج كان يقيم ليلة لأهل الله يذبح فيها ويوزع الصدقات على الفقراء، ويجلس فى صدر صيوان كبير يرتدى جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء، ويتلقى التحيات والتهانى ممن يفد إليه، فى حين يتعالى صوت المنشدين بمدح النبى، صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته الغر الميامين.