رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الأنتكخانة» رواية تؤرخ لنهب الأجانب الآثار المصرية

الأنتكخانة
الأنتكخانة

فى رواية "الأنتكخانة"، لناصر عراق، الصادرة مؤخرًا، عن دار "الشروق"، يستلهم المؤلف حقبة الخديو إسماعيل، الممتدة بين عامى ١٨٦٣ و١٨٧٩، ليعرض صورة مقربة من المجتمع المصرى فى تلك الفترة، فى متن روائى يحتفى بالمهمشين والرعاع قدر احتفائه بمشاهير تلك الحقبة، الذين جرى توظيفهم كشخصيات روائية تدعم مسار الدراما فى النص وتدفع بها إلى الأمام، مثل أحمد عرابى وجمال الدين الأفغانى، وعالمى الآثار الألمانى هنرى بروجيش والفرنسى أوجست مارييت، مؤسس المتحف المصرى.

فى "الأنتكخانة"، يخلط "عراق" التاريخى بالبوليسى والرومانسى، خالقًا عدة خطوط درامية، تفضى فى مجملها إلى الحكاية الكلية، التى اختار فيها أن يطرح فى المقام الأول سؤالًا عن حقبة الوزارات الأجنبية فى مصر، وما ترتب عليها من امتيازات كبرى تُمنح للأجانب على حساب أبناء البلد والوطنيين، وهى الامتيازات التى استغلها البعض، وخان الأمانة الموكلة له كعالم آثار ومستكشف، وتربّح من بيع الآثار المصرية، التى تعود إلى عهد الأسرات، مستغلًا عدم إدراك المصريين لقيمة الكنوز المبذورة فى بطن أراضيهم على طول البلاد، وعدم وجود شرطة خاصة بالآثار فى تلك الحقبة. 

لقد كانت مصر فى تلك الفترة تتحسس دربها، وتتلمس ملامح الطريق نحو النهضة، وكان الخديو إسماعيل يدرك حجم معاناة القطر المصرى على المستوى الاقتصادى، الأمر الذى عرقل مشروعه نحو "أوربة مصر"، رغم جميع التحفظات على المحاولة الإسماعيلية للنهوض بالبلاد حضاريًا، وما يقال عن كونها تجربة منفصلة عن الشعب، محصورة فى نخبة ضيقة لكل الأجانب وقليل من المصريين.

فى "الأنتكخانة"، يُسائل الكاتب ناصر عراق تلك الحقبة، وعلى "الطريقة المحفوظية" تحضر نقاشات المقاهى الشعبية، وأحاديث المواطنين فى الأسواق ومقار العمل عن ورطة الخديو مع الديون، كما تحضر معالم تاريخية معروفة، كبزوغ نجم أحمد عرابى، وتأثير "الحرب السبعينية" على الفرنسيين بعد الهزيمة من ألمانيا، وهجرة مجموعات منهم إلى مصر. 

يطرح ناصر عراق فى رواية "الأنتكخانة" سؤالًا عن الوجود الأجنبى فى مصر، خصوصًا بعد تفاقم ديون مصر فى عهد الخديو إسماعيل، لتصبح مسمار جحا، الذى نفذت منه حكومتا بريطانيا وفرنسا إلى مصر، وعينتا وزراءهما رقباء على الحكومة المصرية.

ويقدم الكاتب وجهًا آخر للحضور الأجنبى فى مصر، متمثلًا فى البعثات الأثرية، التى قدم كثير من أفرادها خدمات جليلة فى ملف اكتشاف "المصريات"، غير أن منهم من استحل تلك الكنوز المملوكة للشعب المصرى لنفسه، بل صار يهادى بها أحباءه، ويبيعها فى قاعات المزادات فى لندن، فى الوقت نفسه الذى يحظى فيه فى مصر بكثير من الامتيازات والتبجيل.

هذا التشابك بين الشرق والغرب، يتجلى فى العلاقة بين "أحمد أفندى كمال" و"جوزفين" التى أحبها الشاب المصرى وركض وراءها كثيرًا، وعندما ظن أنه أخيرًا سيقطف وردتها هجرته مع شاب فرنسى، قبل أن تعود إليه نادمة، فيرفضها بدوره، فى عملية تصحيح للمسار، وهو حدث يحمل دلالة رمزية بقدر ما يحمل تطورًا دراميًا، يمثل التعافى من الهوس والاستلاب للغرب.

لقد سرق الألمانى هنرى بروجش قطعة أثرية عندما وجد نفسه موشكًا على الإفلاس، وسرق مارييت باشا، كما هجرت "جوزفين" الشاب المصرى وعادت لبلادها دون وداع، تاركة له رسالة اعتذار ودبلة الخطوبة.

وكما خان بعض هؤلاء الأجانب الأمانة، فقد خانها "رمضان المحمدى"، وقتل فى سبيل سرقة قطعة الآثار من "الأنتكخانة"، عن طريق عاملات النظافة والخادمات اللواتى كان يوقعهن فى حباله، ويغزل لهن أعشاشًا خيالية من الحب قبل أن يقتلهن ويدفنهن فى حديقة منزله.

لقد تحول "رمضان المحمدى" إلى قاتل متسلسل، يتبع حزمة أفعال تكرارية، يغرى الخادمة.. تسرق له الآثار.. يبيعها لليهودى، ثم يقتل الخادمة ليتخلص من شركائه فى الجريمة.

لقد وضعت رواية "الأنتكخانة" المثال الذى يقول: "المال السايب يعلم السرقة" على المحك، حيث تعامل كل من فيها مع الآثار كهدف ومطمع، الرئيس والموظف وصديق الرئيس وعاملة النظافة وحتى النجار الذى يصنع رفوفًا خشبية لاستضافة اللقى الأثرية.

المجهود البحثى المبذول فى رواية "الأنتكخانة" يبدو جليًا وواضحًا، فالكاتب يشير فى الرواية، سواء فى متنها أو هوامشها، إلى بعض الوثائق والمراجع، مثل قرار السلطان العثمانى عزل الخديو إسماعيل وتعيين الخديو توفيق، أو "مذكرات هنرى بروجش"، عالم المصريات الألمانى، وبين السطور يتضافر التاريخ مع الحكاية المتشعبة، ويتشابك بين جرائم القتل الغامضة واختفاء قطع الآثار من "الأنتكخانة"، وقصة الحب بين "أحمد أفندى كمال" و"جوزفين".

وربما بسبب تلك المسارات التى تتباعد وتتشابك على امتداد الرواية، اختار "عراق"، صاحب رواية "العاطل"، التقنية البوليفونية "تعدد الرواة" ليتناوبوا على سرد فصول رواية "الأنتكخانة"، الأمر الذى أتاح عرض كل وجهة نظر على حدة، وتدوير الأحداث على جميع أوجهها. ويتناوب على السرد كل من: "رمضان المحمدى"، و"أحمد أفندى كمال"، و"جوزفين ديورى"، و"هنرى بروجش"، وهم الشخصيات الأربع الرئيسية التى ترتسم من خلالها مسارات الحكاية المتشابكة بين قضية تهريب الآثار المصرية وآلاف القطع النادرة إلى أوروبا، وقصة الحب التى اندلعت بين الشاب المصرى والشابة الفرنسية، أو الخط التاريخى التصاعدى المستند على روزنامة تلك الحقبة، وتحديدًا نهايات حقبة الخديو إسماعيل وبدايات حقبة الخديو توفيق.

تقنية تعدد الرواة سمحت بطرح سؤال غير محسوم حول الأداء السياسى والإدارى للخديو إسماعيل، فمن جهة يراه "أحمد أفندى كمال" قائد النهضة، مقابل "جوزفين" التى تراه ديكتاتورًا شرقيًا تقليديًا، فيما يراه "هنرى بروجش" كصديق، ويمتن كثيرًا لأن الخديو حفظ له وظيفته رغم إغلاق "مدرسة اللسان المصرى القديم"، التى كان يتولاها.

وهكذا، دحرج "عراق" حكايته بين الشخصيات الرئيسية والفرعية، وطرح قضية حيوية للغاية عن الكنز القومى المتمثل فى الآثار المصرية، نابشًا فى التاريخ والإرهاصات الأولى لتهريب الآثار المصرية إلى خارج البلاد.