رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استخدام الحبوب لامتلاك القوة

تزداد يومًا بعد يوم الضغوط على العالم أجمع جراء حرب روسيا وأوكرانيا، وتشير بعض التقارير إلى أن العالم أصبح مُعرّضًا فى الأسابيع القادمة إلى أزمة غذاء قد تكون الأكبر منذ عام ٢٠٠٨، التى كانت بالأساس بسبب موجات الجفاف وارتفاع أسعار النفط، وحينها قامت البلدان المنتجة والمصدرة للغذاء بوضع قيود على تدفقات صادراتها، نتيجة التخوف من عدم القدرة على تلبية الطلب المحلى، ما أدى إلى زيادة فى أسعار الغذاء. 

نحن الآن بصدد تكرار هذا السيناريو ولكن بوضع أسوأ؛ فالهند توقفت عن تصدير القمح، وتريد أن تقلص من تصدير السكر، وبخاصة أنها تُعد ثانى أهم مصدر للسكر، هذا يعنى أن أسعار القمح والسكر مرشحة لارتفاعات أكبر فى الأسعار، وما يزيد من الضغوظ السعرية استخدام روسيا القمح كسلعة للضغط السياسى والاقتصادى، وهو ما عبّر عنه بوتين صراحة حين قال: «لن أسمح بمرور القمح الأوكرانى عبر البحر الأسود المنطلق من أوديسا، وأنا مستعد لرفع الحصار إذا رُفعت العقوبات». 

تتصارع الدول الكبرى على حساب الأمن الغذائى العالمى، ويدفع الثمن الأكبر الدول النامية والدول الأكثر فقرًا، وفى حال توقف موسم الزراعة الربيعى نتيجة الحرب، كما تُظهر المؤشرات، ستكون العواقب شديدة التأثير على الدول المتقدمة والنامية على حد سواء وبلا هوادة، وهذا ما بدأنا نشاهده بالفعل فى بعض دول أوروبا، التى تعانى شحًا فى بعض المنتجات الغذائية، لا سيما أن الغذاء أساسًا يواجه هشاشة نتيجة التغيرات المناخية، وزاد من الأمر سوءًا جائحة كورونا.

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من ١٩٠ مليون شخص فى ٥٣ دولة عانوا من انعدام الأمن الغذائى فى عام ٢٠٢١، بزيادة تقدر بـ٤٠ مليون شخص على عام ٢٠٢٠، وهنا يُطرح تساؤل مهم: أين الحوكمة الدولية والمجتمع الدولى مما يحدث من أزمة الأمن الغذائى قبل قيام الحرب الروسية- الأوكرانية؟!

كان من المتوقع حدوث تقلبات فى سوق الغذاء العالمية، ولكن دخولها فى لعبة الصراع على سيطرة النظام العالمى من قبل روسيا ينذر بصدمة أكبر فى الأمن الغذائى يترتب عليها حدوث مجاعات فى الدول ذات الدخل المنخفض، التى تعانى بالفعل من ركود تضخمى، وأصبحت غير قادرة على سداد فاتورة الغذاء المرتفعة.. تسهم روسيا وأوكرانيا بنحو ربع صادرات القمح فى العالم، ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة فإن أكثر من خمسين دولة تعتمد على صادرات القمح من الدولتين، ومع سيطرة روسيا العسكرية على الطرق الأوكرانية، التى يُسمح من خلالها بعبور الحبوب والمواد الغذائية إلى السوق العالمية، وحجزها ٢٢ مليون طن من الحبوب، سيشهد كثير من الدول أزمة غذائية حادة، وسيواجه العالم ارتفاعات فى أسعار الغذاء ربما لم يشهدها من قبل.. بوتين يعيد تاريخ استخدام الحبوب والمنتجات الزراعية فى النزاعات.

تاريخيًا، كانت الإمبراطوريات الكبرى تنشئ الطرق على البحرين الأسود والمتوسط أثناء الحروب والصراعات المحتدمة لتسيطر على حركة المواد الغذائية، وتتحكم فى المجريات السياسية والاقتصادية. 

بُنى مفهوم الأمن الغذائى على التخصص والتكامل بين الدول، أى قيام كل دولة بإنتاج جزء كبير من سلعة ما، ثم تدخل هذه السلع فى عمليات التبادل الدولية من خلال حركة الصادرات والواردات، وأسهم ذلك، وفقًا لحسابات التكلفة والعائد، فى تراجع بعض الدول عن تحقيق أمنها الغذائى من خلال الإنتاج المحلى.

أتصور أنه آن الأوان لتغيير هذا المفهوم، وأن الدول لا بد أن تكون لديها خطط اقتصادية وتنموية من أجل تحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتى، فمن ناحية سيقلل ذلك من حجم الواردات، ومن الناحية الأخرى ستكون لديها قدرة على مواجهة التقلبات الاقتصادية التى تحدث على مستوى العالم، فالعالم أصبح شديد وسريع التغير، ولا يمكن لأحد توقع ما يمكن حدوثه فى المستقبل فى ظل صراع لا ينتهى من أجل السيطرة على النظام العالمى، هذا بالطبع يحتاج إلى وقت طويل كى يتحقق، لذا من أجل امتصاص الأزمة قبل تفاقمها لا مناص من أن تتكاتف دول العالم قبل انفجار الأزمة، وتحافظ على إنتاج أكبر قدر من المواد الغذائية واستمرار عمليات التبادل بأكبر كمية يمكن تحقيقها، وتقديم دعم أكبر للمنتجين الزراعيين، وإزالة العقبات التى تواجههم.