رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الوفاق الخامل»

سنوات عديدة قضاها «السادات» يفكر فى مسألة إفساح المجال لجماعة الإخوان والجماعات المنبثقة عنها للعمل فى الشارع، دون أن ينفذ أو يفعّل الفكرة على الأرض. ويخطئ من يظن أن «السادات» بادر إلى ذلك بعد توليه الحكم مباشرة، وكل ما فعله فى هذا السياق هو الإفراج عن كوادر الجماعات وبعض قياداتها، وربما كان مرد ذلك العمليات التى قام بها بعض التنظيمات العنقودية التى تبنت فكر سيد قطب، مثل تنظيم الفنية العسكرية، وتنظيم التكفير والهجرة، ضد السلطة.

الحدث الأبرز الذى دفع السادات إلى التخلى عن الحذر تمثل فى انتفاضة يناير ١٩٧٧، التى أطلق عليها أنصارها انتفاضة الخبز، فى حين وصفها الرئيس بـ«انتفاضة الحرامية». كان لهذه الانتفاضة أثر بالغ على «السادات»، فقد وقعت فى توقيت ظن فيه الرجل أن أغلب المصريين يلتفون حوله بعد أن حقق نصر أكتوبر، وزيّن لنفسه فكرة أن التيارات اليسارية والناصرية هى التى زينت لآلاف المصريين الخروج والتظاهر ضده، وأنهم ضحكوا على الناس وساقوهم إلى مواجهة مع نظامه، ولم يقف للحظة ليفكر فى الأوضاع الاقتصادية والضغوط المعيشية التى سقط الكثيرون فى بئرها، بسبب سياسات الانفتاح الاقتصادى وما ارتبط بها من إجراءات أدت إلى ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة.

بعد انتفاضة يناير ظهر تنظيم التكفير والهجرة يوليو «١٩٧٧»، وبعد القبض على كوادره وقياداته بشهر واحد التقى الرئيس السادات الشيخ عمر التلمسانى المرشد العام لجماعة الإخوان، الذى تولى هذا المنصب بعد وفاة المستشار حسن الهضيبى «١٩٧٤» واتفق معه على منح الجماعة فرصة العمل على الأرض، خصوصًا داخل الجامعات، وأن يعملوا على مواجهة التيارات الناصرية واليسارية، أو من كان يصفهم السادات بمن يمسكون بقميص عبدالناصر.

الدافع الرئيسى الذى حرك السادات لاتخاذ هذه الخطوة هو المناورة السياسية، فقد بيت النية لإلغاء الاتحاد الاشتراكى، وحوّل المنابر إلى أحزاب سياسية، وقرر البدء فى تجربة حزبية، وأفسح المجال للإخوان كجزء من التوجه نحو التعددية، ولم يكن الأمر أكثر من مناورة سياسية استهدف السادات من خلالها إيجاد نوع من الديمقراطية الديكورية أو الشكلية. 

عمر التلمسانى محامٍ، وتمتد جذوره إلى الجزائر «مدينة تلمسان» وكان ضمن المقبوض عليهم فى قضية المنشية «مارس ١٩٥٤»، ومكث فى السجن كغيره من الإخوان حتى أفرج عنهم الرئيس السادات أوائل السبعينيات، وهو من الرعيل الأول للجماعة التى دخلها على يد المؤسس الأستاذ «حسن البنا»، وكان له موقف شديد الحدة من حكم «جمال عبدالناصر»، ومن التوجه الاشتراكى الذى تبناه، والذى أورث البلاد العديد من المشكلات، وألقى بها فى مستنقع الهزائم العسكرية المزرية، كما كان يرى «التلمسانى». 

اتجاه «التلمسانى» وغيره من كبار قيادات الإخوان فى ذلك الوقت كان شديد السلبية نحو ثورة ٢٣ يوليو، رغم أن الجماعة كانت شريكًا لتنظيم الضباط الأحرار فى الانقضاض على الحكم الملكى، وتحالفوا مع نظام يوليو فى البداية حتى انقلب الطرفان على بعضهما البعض عام ١٩٥٤، وكان عبدالناصر أسرع إلى التهامهم، فى الوقت الذى كانت فيه الجماعة تخطط لالتهامه. فى المجمل كان الإخوان من جيل ١٩٥٤ يعانون من جرح نفسى عميق من جمال عبدالناصر.

بدأ الإخوان فى العمل فى المساجد والنقابات المهنية والجامعات، لكن ثمة خلافات سرعان ما ظهرت بينهم وبين نظام السادات، كان أبرز مشاهدها المعلنة مشهد حوار التلمسانى مع السادات، الذى بدأه الرئيس بمعاتبة «التلمسانى» على ما يكتبه فى مجلة الدعوة، وتأكيده أن الإخوان جماعة شرعية، وأن المخابرات الأمريكية تحرض النظام فى مصر على التخلص من الإخوان والجماعات الإسلامية، ثم أعطى «السادات» الكلمة لـ«التلمسانى»، فنفى وجود أى علاقة أو تعاون من أى نوع بين الإخوان والشيوعيين، وأن الإخوان لا يتآمرون على الدولة، وقال يومها عبارته الشهيرة: «سيادتك اتهمتنى وانت رئيس الدولة.. لو إن غيرك اتهمنى لرفعت الأمر إليك.. إنما اليوم إلى من أرفعه؟.. أرفع أمرى إلى الله»!. حفظ المصريون حينذاك العبارة «التلمسانية» وهزت بعضهم من الأعماق.

لم تكن العلاقة بين السادات والإخوان على ما يرام، فقد انتهز الإخوان الفرصة وبدأوا ينتشرون فى المساجد، وسيطروا على اتحادات الطلاب فى الجامعات، وكذلك على مجالس إدارات بعض النقابات، وبدأوا فى استعراض العضلات فى صلوات العيد بساحة عابدين، وفى التجمعات الإسلامية التى تولوا القيام بها. ومؤكد أن حركتهم فى الشارع كانت مرصودة بدقة أمام الرئيس السادات، وكان دائب الحديث عن أن الإخوان تريد تصفية حساباتها مع ثورة يوليو، وكان أكثر جملة تتكرر على لسان السادات خلال هذه الفترة «لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين»، والعجيب أنه كان يقولها وهو الذى أعطى الجماعات فرصة العمل فى الشارع، ووظفهم كأداة لمواجهة خصومه السياسيين.

الشارع المصرى فى ذلك الوقت كان موجوعًا بالأوضاع الاقتصادية التى تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، والتعقيدات المعيشية المرتبطة بضعف المرافق وشح السلع، ناهيك عن الغلاء والقفزات المتتالية التى شهدتها الأسعار، يضاف إلى ذلك أن حزب مصر الذى قاده السادات لم يشكل بديلًا جيدًا للاتحاد الاشتراكى، حتى بعد أن أسس السادات الحزب الوطنى الديمقراطى، لم يختلف الوضع كثيرًا، فقد كان الحزبان عاجزين عن لعب دور الظهير الشعبى للرئيس، وتكالبت الظروف الاقتصادية والمعيشية مع حائط المظلومية الذى بناه الإخوان حول ما حدث لهم فى سجون الستينيات، فدفعت بعض المصريين للانضمام إلى الإخوان أو التعاطف معها.

لكن علينا أن نقر أن المنحازين للإخوان فى ذلك الوقت لم يكن يحركهم دين أو بحث عن إسلام هم يعتنقونه فى الأصل، ولم يكن أى منهم بحاجة لشهادة على إسلامه من الجماعة، بل كان تحركهم مدفوعًا بالظروف المعقدة التى عانوا منها، وانخداعًا بشعار: «الإسلام هو الحل»، حيث ظن البعض أنه يقدم حلًا من خارج صندوق الدولة.