رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فورين بوليسى: الأزمة الروسية الأوكرانية تؤكد عدم فعالية التحوط كسياسة خارجية قابلة للتطبيق

 الأزمة الروسية الأوكرانية
الأزمة الروسية الأوكرانية

لأسابيع قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، نأت كوريا الجنوبية بنفسها عن حملة العقوبات التي كانت تقودها الولايات المتحدة بحق روسيا، بدعوى أن الإجراءات العقابية تضر بعلاقات سول مع موسكو، التي تتمتع ببعض النفوذ على كوريا الشمالية، وتعد سوقًا مهمًا لصادرات كوريا الجنوبية من الأجهزة الإلكترونية المنزلية.

وقال "بارك سو هيون" وزير الاتصالات الرئاسي الكوري بعد يوم من بدء العملية العسكرية الروسية: "هناك شركات ومواطنون كوريون في روسيا. إن حجم تجارتنا ينمو، ولا يمكننا تجاهل هذه الأشياء. هل يتوقعون منا بصدق فرض عقوبات مستقلة؟".

وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الجواب على هذا السؤال هو "نعم بكل تأكيد"، حيث كانت العقوبات هي بالضبط ما توقعه المجتمع العالمي من حليف رئيسي للولايات المتحدة أعلن نفسه "ديمقراطية كاملة" وتفاخر بوضعه الجديد كـ "دولة متقدمة"، متجاهلًا القوى الكبرى في قمة مجموعة السبع العام الماضي. ولكن بدلًا من إظهار مبادرة دبلوماسية، فإن إحجام سول عن الانحياز إلى المد العالمي ضد موسكو من شأنه الإضرار بوضعها.
وقال إيفانز ريفير النائب الأول السابق لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون شرق آسيا والمحيط الهادئ "كانت كوريا الجنوبية بعيدة عن المسار. ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن أيضًا مع المجتمع الدولي، ما يقوض المفهوم الخاص بالتضامن الدولي بين الدول الديمقراطية والحليفة".

وأضافت المجلة الأمريكية أنه عشية العملية الروسية، وبينما كانت الحكومات الأخرى تنسق الجهود بشأن العقوبات والانخراط في الدبلوماسية المكوكية لمنع الحرب في أوروبا، أمر الرئيس الكوري الجنوبي بـ "تدابير عاجلة" واجتماعات طارئة لحماية المصدرين الكوريين الجنوبيين. وعندما بدأت العمليات العسكرية، لم يدنها رئيس كوريا الجنوبية ولم يوجه خطابًا عامًا، واكتفى بالإعراب عن "أسفه" بشأن الموقف.

وتابعت المجلة أن الرئيس الكوري الجنوبي رضخ في النهاية لضغوط الولايات المتحدة بشأن العقوبات، وأعلن عن أن بلاده ستشارك في الجهود العالمية لتهدئة الصراع، دون أن يقدم أي تفاصيل حول كيفية أو متى سيتم تنفيذ ذلك.

بلا شك، كان ذلك مثالًا كلاسيكيًا على انتهاج دول لسياسة خارجية تتسم بالتحوط، أي تجنب القضايا الحساسة حرصًا على دعم العلاقات التجارية.

وتقول "فورين بوليسي" إن الكوريين الجنوبيين لطالما نظروا إلى بلادهم على أنها "قريدس (جمبري) بين الحيتان"، في إشارة إلى موقفها غير المستقر بين القوى الإقليمية الكبرى، حيث إنها تقع بين الصين ومنغوليا واليابان -التي تنافست كل منها على الهيمنة الإقليمية لقرون-، وإن التحوط والغموض الاستراتيجي كان حيويًا ومهمًا لسيادة كوريا الجنوبية وأمنها.

واليوم، تحاول كوريا الجنوبية بشكل عام الموازنة في علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين حتى لا تؤجج أكبر تحدٍ أمني لها (كوريا الشمالية المسلحة نوويًا). فعلى مدى العقود السبعة الماضية، عززت سول علاقاتها الثنائية وتحالفاتها الأمنية مع واشنطن، وفي الوقت نفسه، سعت أيضًا إلى بناء علاقات ودية مع بكين وموسكو على أساس التجارة والاستثمار نظرًا لتأثيرهما على بيونج يانج، وكذلك قربهما الجغرافي وإمكانيات النمو الاقتصادي لدى كل منهما.

يمكن هنا التأكيد أن السنوات الذهبية للعولمة في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحادي والعشرين ساعدت سول على استخدام التجارة الحرة والتعاون الاقتصادي لتقوية قدراتها الدبلوماسية، حيث استطاعت تجنب الحساسيات السياسية، والتزمت الصمت حيال قضايا حقوق الإنسان والنزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.

وفي عام 2003، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لكوريا الجنوبية وأكثر وجهة استثمارية شعبية، وتمثل الشحنات الكورية المتجهة إلى الصين حاليًا أكثر من 27 بالمائة من إجمالي صادرات كوريا الجنوبية. كما أصبحت روسيا، خلال عامي 2007 و 2008، سوقًا رئيسية للتصدير بالنسبة لكوريا الجنوبية، حيث سيطرت شركتا "سامسونج" و"إل جي" على مبيعات الأجهزة الإلكترونية المنزلية، وافتتحتا مراكز إنتاج إقليمية هناك. وفي غضون ذلك، أنشأت شركة هيونداي مصنعها الخارجي السادس في سان بطرسبرج، وحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفل الافتتاح في عام 2010، لاختبار قيادة سيارة سيدان بنفسه.

ومع تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين خلال الأزمة المالية العالمية 2007-2008، أصبح من الصعب على كوريا الجنوبية إعطاء الأعمال التجارية الأولوية مقارنة بالجغرافيا السياسية. وقد حاولت إدارتا "لي ميونج باك" و"بارك كون هيه" لعب دور جسر بين واشنطن وبكين، واتباع مبادرات غير أمنية لتعزيز السلام والتعاون الإقليميين، غير أن هذه المحاولات فشلت لأن كوريا الجنوبية قوة وسطى.

ومع التهديد النووي المتزايد من كوريا الشمالية -وتجاهل بكين المكالمات الهاتفية من سول- قررت "بارك كون هيه" الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، والموافقة على تثبيت نظام الدفاع عن منطقة الارتفاعات العالية الطرفية في كوريا الجنوبية، ما أثار غضب الصين، التي اعتبرتها شكلًا من أشكال الردع الأمريكي ضد بكين.

وعلى مدار 18 شهرًا، حرصت الحكومة الصينية على التأكد من أن سول دفعت ثمن هذا الإجراء عبر المقاطعة الاقتصادية ومقاطعة السفر التي قضت على أكثر من 15 مليار دولار من الاقتصاد الكوري الجنوبي في قطاع السياحة وحده بحلول نهاية عام 2017.

ويرى بروس دبليو بينيت، الباحث في مؤسسة "راند" (مؤسسة الأبحاث والتطوير الأمريكية)، أنه كان ينبغي أن تكون هذه الإجراءات دعوة للاستيقاظ بأن التحوط ليس سياسة قابلة للتطبيق، وأنه "كان ينبغي على حكومة كوريا الجنوبية أن تدرك أن النظام الاقتصادي الحر مهم، لكن الاقتصاد مرتبط بالسياسة، والصين تستخدم الاقتصاد كسلاح قوة".
ومع ذلك، اتخذت الإدارة الكورية الحالية ـ وفقًا لفورين بوليسي- خطوة إلى الوراء، في محاولة للقيام بـ "ولاء مزدوج" لواشنطن وبكين على أمل التقدم في الدبلوماسية بين الكوريتين. وأعرب الرئيس الكوري الجنوبي "مون جاي إن" عن دعمه لمبادرات الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ، وزيادة مساهمات كوريا الجنوبية في تكاليف الدفاع المشتركة. ولكنه، في الوقت نفسه رفض إسقاط شبكات الجيل الخامس الصينية، أو المقاطعة الدبلوماسية لأوليمبياد بكين، أو إثارة قضية حقوق الإنسان في هونج كونج وشينجيانج، أو قضية تايوان في إعلان مشترك مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في مايو الماضي.
وترى المجلة الأمريكية أنه لم تظهر خلال فترة ولاية مون أي نتائج ملموسة أو تقدم بشأن السلام بين الكوريتين أو نزع السلاح النووي، وأن سياسة التحوط تسببت فقط في حدوث خلافات في تحالف كوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة، كما تسببت حالة الغموض بشأن القضايا الجيوسياسية إلى ضرب مصداقية سول مع الدول الأخرى أيضًا. 

فعلى سبيل المثال، أظهر مسح أجري عام 2020 لدول في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) مستوى منخفضًا للغاية من الثقة في كوريا الجنوبية عندما يتعلق الأمر بـ "الحفاظ على النظام القائم على القواعد ودعم القانون الدولي".
وتشير المجلة الأمريكية إلى أنه مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لم تتعلم حكومة كوريا الجنوبية الدرس، وظلت "تتحوط مرة أخرى بدرجة تكاد تكون محرجة"، لا سيما أن دولًا مثل ألمانيا - التي تتمتع بعلاقات أوثق مع روسيا مقارنة بكوريا الجنوبية- أوقفت خط أنابيب "نورد ستريم 2". كما أن سويسرا قررت أن هذا ليس وقتًا للحياد، واعتمدت عقوبات واسعة النطاق، وجمدت أصولًا روسية.
وتضيف المجلة أن "هذه الأزمة هي اختبار لمعرفة ما إذا كانت كوريا الجنوبية ستقف إلى جانب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي خلال لحظة الحاجة. وقلة قليلة من الناس في القيادة في سول استوعبوا ذلك".
 

وبالفعل، شعر مسئولو إدارة كوريا الجنوبية بالقلق الشديد عندما اكتشفوا أن سول لم يتم إدراجها في قائمة 32 دولة موثوقة مستثناة من قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة (FDPR) الصادرة عن وزارة التجارة الأمريكية، والتي تتطلب من الشركات الأجنبية التي تستخدم التكنولوجيا الأمريكية أن تسعى للحصول على موافقة من واشنطن قبل تصدير منتجاتها إلى روسيا، وهو ما قد يؤثر ذلك بشدة على حصة شركتي "سامسونج وإل جي" الرائدتين في السوق في مجال الأجهزة المنزلية والهواتف المحمولة.
وبعد أربعة أيام من نشر القائمة الأمريكية، قررت حكومة كوريا الجنوبية فرض عقوبات مستقلة على روسيا بصفتها "عضوًا مسئولًا في المجتمع الدولي". وكان من الواضح بين القيادة في سول أنه لم يعد هناك مجال لمواصلة حالة الغموض الاستراتيجي، وأن المزيد من العثرات يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة تمامًا على اقتصاد كوريا الجنوبية المعتمد على التصدير.
كما استبعد معظم المحللين إمكانية قبول كوريا الجنوبية كعضو في الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارية رئيسية تقودها اليابان، نظرًا للنزاع المستمر بين البلاد وطوكيو حول القضايا التاريخية. ولكن يتوقع المحللون أيضًا أنه إذا استمرت سول في حالة الغموض الاستراتيجي حيال مسألة التعاطي مع الصين، فإنها ستواجه أيضًا خطر عدم الانضمام إلى مبادرة الإطار الاقتصادي الجديد لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF) التي أعلنت عنها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في أكتوبر الماضي، وتهدف إلى تعزيز التجارة والاستثمار والاقتصاد والعلاقات بين الولايات المتحدة والدول الشريكة لها في المنطقة.
ويرى "أوه جون سيوك" أستاذ إدارة الأعمال في جامعة سوكميونج ورئيس منتدى أبحاث الضرائب الكورية أنه "من المهم للغاية أن تنضم كوريا الجنوبية إلى هذه المبادرة، وإلا سيتضرر الاقتصاد الكوري الجنوبي بسبب اعتماده الشديد على تصدير أشباه الموصلات وتكنولوجيا الاتصالات".
 

ومما زاد من حالة القلق لدى المسئولين في كوريا الجنوبية، ورقة للكونجرس الأمريكي في 24 فبراير الماضي تتحدث عن أن مبادرة الإطار الاقتصادي الجديد لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ "يمكن أن تشمل كوريا الجنوبية"، ما يعني ضمنًا أنها قد لا تكون كذلك، وأن تقرير ذلك سيعتمد ـ وفقًا لفورين بوليسي- على ما إذا كانت سول ستنظر إلى ما هو أبعد من مصالحها الخاصة وترتقي بدورها الجديد في الحوكمة العالمية.
وترى المجلة الأمريكية أنه مع تولي الرئيس المحافظ المنتخب "يون سوك يول" مهام منصبه في غضون شهرين، فمن المحتمل تمامًا أن تستجيب سول بشكل إيجابي لهذه القضايا، وهو ما يتبين من تصريحاته حيال العمليات العسكرية في أوكرانيا، وإعلانه دعم الشعب الأوكراني، وإدانة هذه العمليات، والمشاركة في العقوبات ضد روسيا، باعتبار ما تقوم به انتهاكًا للقانون الدولي.
والمؤكد ـ وفقًا لفورين بوليسي- أنه قياسًا إلى أن ناتجها المحلي الإجمالي الآن من بين أكبر 10 دول في العالم، وقوتها العسكرية في المراكز الستة الأولى، فإن مكانة كوريا الجنوبية في العالم لم تعد بحجم القريدس (الجمبري)، ويجب أن تعكس تصرفات سول ذلك.