رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواجهة بالموسيقى.. حلم يحيى خليل الذى يستحق المغامرة

لا أظن أننى بحاجة إلى التذكير بأن الفنانة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة، واحدة من أكثر الناس دراية بقوة الموسيقى، وقدرتها على تنوير الروح التى هى المفتاح الأهم لتنوير العقول، وتسهيل انفتاحها على الحياة والمستقبل، وربما كان عملها عازفة للفلوت واحدًا من أكثر أسباب تفاؤلى بوجودها فى مقعد وزارة الثقافة، لما يعنيه ذلك، بالنسبة لى على الأقل، أنها كموسيقية تعرف تمام المعرفة ما للموسيقى من قوة وقدرة على التأثير تفوق مئات الكتب والمجلات، كما تعرف ما تواجهه من معوقات ومشاكل تقف دون انتشارها فى ربوع مصر، وتعرف الحلول المناسبة لها، التى يمكنها أن تعيدها إلى بؤرة الاهتمام الجماهيرى، فى زمن يتراجع فيه الذوق العام بمعدلات تفوق قدراتنا على التحمل، وبعد سنوات طويلة كانت فيها فنون الكتابة والأدب هى الشغل الشاغل لكثير ممن مروا على هذا المقعد، وكان من نتائجها أن تحولت مسارح الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى أماكن مغلقة، يقتصر نشاطها على عدد محدود من الندوات الأدبية والعروض المسرحية الفقيرة، ومعارض الفن التشكيلى، بينما تراجعت فنون الموسيقى والغناء وتوارت، دون أن تجد من يهتم بها أو يعطيها ما تستحق من أولوية قصوى فى معركة التنوير التى نجاهد فيها منذ سنوات طويلة دون جدوى، لا لشىء إلا لأننا عشنا طويلًا نحارب قوى الظلام والتطرف بالأسلحة الخطأ، بينما يتوارى السلاح الأقوى والأهم والأكثر تأثيرًا وفاعلية.. الموسيقى.

ولعله من المناسب هنا أن أذكر أنه قبل أيام أسعدنى النجم يحيى خليل، رائد موسيقى الجاز فى مصر، بمكالمة هاتفية، حملت لى الكثير من الذكريات والحنين إلى ليلة من المتعة الخالصة والجمال الذى لا تحده سماء، وإلى بدايات التسعينيات من القرن الماضى على وجه التحديد. 

وقتها لم أكن أعرف عن موسيقى الجاز أكثر من معلومات شحيحة حول نشأتها الأمريكية، والبعض القليل من روادها.. ولم أكن أعرف عن يحيى خليل أكثر من كونه مؤسس فرقة «رباعى القاهرة لموسيقى الجاز»، صاحبة الفضل الأكبر فى ظهور نجم المطرب الشاب وقتها محمد منير، ومؤلف موسيقى مقدمة البرنامج التليفزيونى «حكاوى القهاوى»، التى كانت واحدة من أكثر المؤلفات الموسيقية قربًا إلى قلبى لما فيها من إيقاعات مرحة خفيفة. 

كنت مجرد قروى يحب الكتابة والموسيقى والغناء، ويبدأ رحلته مع الصحافة والكتابة والأدب، وعرفت بالصدفة أن هناك حفلًا لموسيقى الجاز بمسرح الجمهورية القريب من وسط القاهرة، ربما لا أذكر الآن الكثير من تفاصيل ذلك المساء البعيد، ولا مَن كان صاحب الدعوة، أو رفيق الحفل، وما تبعه.. كل ما أذكره أننى ودون مقدمات وجدتنى أُحلّق وسط مئات الحضور فى سماء الموسيقى الصافية، تغمرنى نشوة الذوبان وسط الجميع، تقودنا نقرات يحيى خليل على «الدرامز» وهى تتسارع فتتسارع معها نبضات القلوب، وتتوحد مع الآلة التى تتصدر المسرح، ويجلس خلفها يحيى بلحيته البيضاء، وحبات العرق تنساب حول وجهه الغارق فى الموسيقى.. يا الله.

ليلتها عدت إلى منزلى ولا شىء يشغلنى غير سطوة الموسيقى، وقدرتها على الحضور، وتوحيد الآلاف على خبطة «درامير واحد».. لا يشغلنى غير سؤال واحد: كيف فعلها هذا المجنون؟.

وفى ذلك الصباح القريب، حدثنى الموسيقار الكبير يحيى خليل عن الحلم الذى كان، ولا يزال، يطارده بإحياء موسيقى الجاز ونشرها فى ربوع مصر من خلال جولة فى المحافظات، خصوصًا محافظات الصعيد، وحدثته عن تلك الليلة التى ما زلت لا أذكر عنها غير تلك الحالة من التوحد التى سيطرت على قاعة مسرح الجمهورية.

قال لى إنه تقدم بمشروع تلك الجولة إلى الفنانة إيناس عبدالدايم، على أمل أن تدعمها وزارة الثقافة، ولو بفتح مسارح الهيئة العامة لقصور الثقافة لاستضافتها، بدلًا من حبسها فى قاعات دار الأوبرا التى يقتصر جمهورها على نخبة محدودة من محبى الموسيقى فى القاهرة والإسكندرية.. ووجدتنى أتذكر جلساتى وقليلًا من الأصدقاء فى قاعات قصر الثقافة بمدينة شبين الكوم، وأتذكر غرفه الخاوية إلا من بعض الموظفين، نتحدث عن الشعر والكتابة والأدب، ونتأمل المسرح الكبير الغارق فى الفراغ والظلام.. ووجدتنى أتساءل بينى وبين نفسى: ولِمَ لا؟.

كم تتكلف الوزارة إن هى فتحت أبواب تلك المسارح المنتشرة فى عموم مصر لحفلات يحيى خليل وعمر خيرت وياسر عبدالرحمن وفرق الموسيقى بمختلف ألوانها ومشاربها؟، وكم سنجنى من هذه الحفلات؟.

أغلب الظن أن تحقيق مثل هذه الأمنية لن يكلف وزارة الثقافة الكثير، بل إن مردودها سوف يكون أكبر بكثير، وعلى كل المستويات.. جربنا الندوات، والمحاضرات الفكرية، والمواجهة مع قوى الظلام بالكلمات والأفكار، وأظن أنه حان الوقت لتنوير الأرواح.. المهمة التى لا تقدر عليها سوى الموسيقى وحدها.. وأغلب الظن أن فتح الأبواب أمام مثل هذه النوعية من المشروعات سوف يضيف الكثير والكثير إلى رصيد الدكتورة إيناس عبدالدايم، وإلى وزارة الثقافة، وسوف يوفر علينا الكثير والكثير من الجهد فى مواجهة أعداء الحياة.. وأغلب الظن أن الفنانة الوزيرة إيناس عبدالدايم لن تبخل على مثل هذا المشروع الطموح، ولو بالنظر، والدراسة، وهى الموسيقية العارفة بأن جملة موسيقية واحدة صحيحة يمكنها أن تغنى عن عشرات الكتب، والندوات، والعروض المسرحية.