رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ طه البشرى يرد على "القرآني الأول":الرسول أمر«عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين» (2)

جريدة الدستور

الشيخ طه البشرى يرد على "القرآني الأول":الرسول أمر«عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين» (2)

عدم كتابة شىء من الأحاديث فى عهد النبى لا يبرر الاتهام بالتلاعب والفساد.. والرسول أمر: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين



أما عن عصمة الشريعة كلها فلنا فى إثبات هذه الدعوى وجهان:

الأول: الدلائل الدالة على ذلك من الكتاب مثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَه} «التوبة: ٣٢»، ونور الله شرعه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} «الحجر: ٩».

ولو فسرنا الذكر بالشريعة كلها، كتابها وسنتها، لكان الأمر ظاهرًا، ولو قصرنا تفسيره على الكتاب لجاءت السنة بطريق اللزوم لما علمت من أنها كائنة لتفصيل مجمله، وتفسير مشكله، ولا معنى لحفظ كليات الشريعة ومجملاتها دون جزئياتها ومفصلاتها التى هى مناط التكاليف وعليها تدور الأحكام. 

والثانى: الاعتبار الوجودى الواقع من زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الآن، فإن الله سبحانه كما قيَّض للكتاب العدد الجم من ثقاة الحفظة بحيث لو زِيد فيه حرف واحد لصرفه الآلاف من القارئين، كذلك أقام لكل علم يتوقف عليه فهم الشريعة من الناس من تأدى بعملهم هذا الفرض أحسن الأداء، فمنهم من استنفد السنين الطوال فى حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة الغراء من القرآن والحديث، وهذا الباب الأول من أبواب فقه الشريعة التى أوحاها الله تعالى إلى رسوله على لسان العرب، ومنهم من جدّ فى البحث عن تصاريف هذه اللغات فى النطق بها رفعًا ونصبًا وإبدالًا وقلبًا وإتباعًا وقطعًا وإفرادًا وجمعًا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها الإفراد والتركيب، ومنهم من قَصَرَ عمره- وهو طويل- على البحث عن الصحيح من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا الصحيح من السقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى فى أخذ فلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من الحديث الشريف، فلا محل لدعوى «حصول التلاعب والفساد» فى حديث الرسول الكريم، كيف وقد علمت أن السنة شطر الدين، والدين قد جاء إلينا بطريق التواتر القطعى؟! وإذا كان نقلة الكتاب العزيز هم العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ الأمناء فإن الحديث ورواته إن لم يكونوا هم بأعيانهم فإنهم لا يقلون عنهم فى العدالة والحفظ والضبط والثقة والأمانة، فمن طعن فى صحة السنة فقد طعن فى صحة الكتاب أيضًا.
وقد عللت صحة الكتاب وفساد سند السنة بتعاليل نرى من الحتم علينا الإلمام بها جملة ونعقبها بما يكفى لدفعها:

■ كون متن القرآن مقطوعًا به، لأنه منقول عن النبى باللفظ دون زيادة ولا نقصان.

■ كتابة القرآن فى عصر النبى عليه السلام بأمر منه.

■ عدم كتابة شىء من الأحاديث إلا بعد عهده بمدة كافية فى حصول التلاعب والفساد الذى حصل!

■ عدم إرادة النبى لأن يبلغ عنه للعاملين شىء بالكتابة سوى القرآن المتكفل بحفظه فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} «الحجر: ٩».. ولو كان غير القرآن ضروريًّا فى الدين لأمر النبى بتقييده كتابةً، ولتكفل الله بحفظه ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه.
ونقول:

■ أما القطع بالقرآن كله فلا شك فيه، ولكن ليس بما ادعيت من نقله عن النبى باللفظ دون زيادة ولا نقصان، فإن هذا ليس كافيًا فى القطع بل هو إنما تحقق بالتواتر اللفظى، وهو الذى استفيد منه عدم الزيادة والنقصان، على أنك إن عددت مثل ذلك موجبًا للقطع يلزمك أن تعد السنة الصحيحة مقطوعًا بها- بحسب الشخص- كلها، لأنها جاءتنا أيضًا بلا زيادة ولا نقصان بل ولعُدَّ كل خبر ورد من أى طريق بلا زيادة ولا نقصان- مقطوعًا به وهو غير مُسَلَّم.

■ وأما كتابة القرآن بأمر النبى عليه السلام فى عصره فلا نزاع فيها أيضًا، ولكن العمدة فى القطع به إنما هى بالتواتر، كما قدمنا، بحفظه فى صدور جماعة من الصحابة غير ممكن تواطؤهم على الكذب، والذين يلونهم كذلك، ثم الذين يلونهم إلى عصرنا هذا، على أننا لا نهمل ما للكتابة من التوكيد وفوائد أخرى كثيرة: مثل ترتيب الآيات بعضها إلى بعض بإشارة جبريل عليه السلام، فإن القرآن نزل نُجُومًا على حسب مقتضيات الوقائع لا بهذا الترتيب. ولا يعزب عنك أن ما سطره كُتَّاب الوحى من القرآن ليس بين أيدينا شىء منه الآن، بل نحن لم نقطع بحصول الكتابة فى عصر النبى عليه السلام إلا بالتواتر اللفظى المسلسل إلى ذاك العهد الشريف، وهناك تستوى الكتابة وعدمها فى صحة النقل، مادام مصدرها موجودًا وهو النبى الكريم المبلغ آيات الكتاب الحكيم، فإذا كنت تعد الكتابة التى سجلت فى عهده عليه السلام هى الحجة وحدها فى القطع بالقرآن، فقد شككت فى القرآن المتلوّ طول هذا الزمان فى كل بلاد الإسلام. فإننا ومن قبلنا إلى قريب من ذلك العهد الشريف لم نحظَ برؤية شىء من هذا الأثر الكريم! وإذا اعتبرت القطع بالنقل عن ذاك الأثر قلنا: لا نسلم أن هذا موجب للقطع بصحة القرآن، إذ إن الكتابة نفسها لا دليل موجب للقطع بأنها من الرسول، بل هى فى إثبات صحتها ذاتها محتاجة إلى التواتر اللفظى المؤيد يقينًا لصحة العزو، فعلمت أن المدار فى القطع بالقرآن هو التواتر اللفظى لا غيره وقد نُقلت إلينا السنة إجمالًا من هذا الطريق، ولا يذهب عنك أن العرب كانت أمة أمية، أكبر اعتمادها فى حفظ مأثورها كان على الصدور لا السطور.

■ وأما عدم كتابة شىء من الحديث فى عهده، فهو لا يفيد دعوى التلاعب والفساد، بل ربما كان عدم الكتابة مما يبالغ بالنفس فى تأكيد صحة أسانيد السنة، إذ رواية الحديث الواحد بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة مع حفظ وسطه وطرفيه أكبر مدفع لدعوى التلاعب والفساد. ثم إنك قلت: «من التلاعب والفساد ما قد حصل» أترمى بذلك السنة الصحيحة المعتد بها، والمعتمد عليها المسطورة فى مثل صحيح مسلم والبخارى وموطأ مالك وأمثالها مما أجمعت الأمة على صحته، أو غير ذلك مما نص على ضعفه أو وضعه؟ إن كان الأول فقد طعنت فيما أجمع القوم على صحته فى الجملة ومنه القرآن ولا تقول بهذا، وإن كان الثانى فإنّا لا نعول منه على شىء.

■ وأما دعوى «عدم إرادة النبى عليه السلام لأن يبلغ عنه للعالمين شىء بالكتابة سوى القرآن» ففى هذه المقدمة- أو شبه المقدمة- نظر، على أننا لو تنازلنا بتسليمها لما نتجت النتيجة التى تريدها، وهى أنه لم يُرد أن يبلغ عنه شىء أصلًا سوى القرآن «طبعًا» والنبى عليه الصلاة السلام أرسل كثيرًا من الرسل إلى الجهات المختلفة ولم نسمع، ولا تستطيع أن تثبت، أنه كان يقتطع لهم من صحف الكتاب ما يكون «الحجة» فى دعوتهم إلى الإسلام أولًا، ويعلمهم أحكامه ثانيًا، ولو كان الأمر كما رأيت ما صح تبليغ أولئك السفراء إلى الدعوة ولا اعتد بإقامتهم بين الناس أحكام الشريعة، نعم يقال: إنه كان يكتفى بمحفوظهم من الكتاب، ونقول إنه كان كذلك يكتفى بمحفوظهم من السنة، وإن قيل: إن النبى، صلى الله عليه وسلم، أصحب وفوده إلى الملوك بكتابات مرقومة ورسائل مسطورة، قلنا: إن ذلك لم يخرج عن الإيذان بصحة بعثة أولئك الرسل عن النبى عليه السلام، وكل ما فيها لا يجاوز الإلماع إلى الغرض الذى سرحهم إليه، وأما كونه لم يترك أثرًا من الدين مسطورًا إلا الكتاب العزيز فقد علمت أن لا يترتب عليه شىء مما نحن فيه، ولو كان الأمر كما ترى فبِمَ كان يتعلم الناس كيفيات الصلاة مثلًا وهى القاعدة الثانية من قواعد الإسلام؟!

ترى أننا بعد هذا فى غنى من التماس العلل لكتابة القرآن دون السنة؟ فنحن نقيلك من أصل العلة التى أوردتها لذلك وتكلفت مؤنة ردها، ولكنا نناقشك فى هذا الرد. قلت: «فإن قيل: إن النبى لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله. قلت: وكيف ذلك والقرآن مُعْجِزٌ بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله؟!» ونقول: إن إعجاز نظمه لا يتحقق بقدر الآية الصغيرة مثلًا، فلا مانع إذن بأن يلتبس هذا القدر من الكتاب بالسنة، أو مثله من السنة بالكتاب، وأنت أوعى وأرشد من أن تنبه إلى المصاب بخروج آية بل آيات متفرقات من القرآن عنه، ودخول أمثالها فيه وليست منه، على أن عدم التباس القرآن بغيره إنما يتحقق فى حق العربى الخبير بأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، ولكنه غير متحقق أصلًا فى جانب غيره أعجميًّا كان أو من هؤلاء المستعربين. 

على أننا نرجع إلى أصل الموضوع فنقول: إن وظيفة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى هذا الباب إنما هى التبليغ من أى طريق كان، وقد قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» وذلك غير مخصوص بالكتاب، بل بكل ما سمع منه قرآنًا كان أو سنة، وقد قال تخصيصًا لهذه: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ».

■ أما جواز رواية الحديث بحسب ما يؤديه الفهم لم نسمعه إلا منك، فإن المقرر المعروف أن فهم الحديث فى ذاته تابع لروايته، لا أن روايته تابعة لفهمه. 

وإذا كانت روايات الحديث مسوقة حسبما تبلغ الأفهام فأحرى بها ألا تساق أصلًا.

وكيف يجول الفكر ويضطرب الفهم فى شىء قبل وروده وتقرره أولًا؟!

وإذا أردت بذلك وقوع اختلاف الأفهام فى بعض الأحاديث فذلك ضرورى كاختلافها فى بعض آيات الكتاب سواء بسواء. 

أما رواية الحديث بمعناه إذا غاب عن الراوى لفظه فجائز، لأن المراد منه هو حكمه لا التحدى بنظمه أو التعبد بلفظه. فلا بأس إذن بروايته بأى لفظ يؤدى معناه المراد.