رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأخطاء العقائدية في "فتح الباري" بشرح صحيح البخاري

جريدة الدستور

 يعتبر كتاب "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني، أهم وأشهر الشروحات لكتاب "الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه"، الشهير بِاسم "صحيح البخاري"، وقد طُلب من الإمام الشوكاني- رحمه الله- أن يصنف كتابا لشرح صحيح البخاري، فما كان منه إلا أن قال: لا هجرة بعد الفتح، ولا يخفى ما فيه من اللطف" يقصد "فتح الباري" لما فيه من الكفاية في شرح الآثار والأحاديث التي جمعها الإمام البخاري في صحيحه (1).

ولذلك فإن لمصنف "ابن حجر" منزلة عظيمة في نفوس جموع المسلمين على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، وقد التصق اسم صحيح البخاري للإمام البخاري بشارحه الإمام ابن حجر العسقلاني- رحمهما الله- ورغم المكانة العلمية العظيمة للكتاب، فقد وجه الكثير من علماء العقيدة النقد لمنهج الإمام ابن حجر العسقلاني الذي ظهرت فيه لديهم العديد من الأخطاء، وأبرزها انتماءه المذهبي، ومن أبرز الذين علقوا على هذه الأخطاء محب الدين الخطيب في الطبعة التي أشرف عليها في تحقيق كتاب فتح الباري "طبعة المكتبة السلفية"، وقد نوه لهذه الأخطاء في حاشية الكتاب وجمعها الشيخ عبدالله محمد الدويش وعبدالله الساعدي العبدلي في رسالتين بعنوان "أخطاء فتح الباري في العقيدة".

 من هو ابن حجر العسقلاني ذكرت كتب التراجم والسير أن الحافظ ابن حجر العسقلاني ولد في شعبان سنة 773هـ، ومات أبوه، وله من العمر أربع سنوات، وكانت أمه قد ماتت قبل ذلك أيضًا، ونشأ في رعاية وصيه زكي الدين الخُرُّوبي (ت 787هـ) أحد كبار التجار في مصر. وقد أكمل- رحمه الله- حفظ القرآن الكريم وله تسع سنين، وحفظ مجموعة من المتون في فنون شتى وهو صغير، ثم تدرج في طلب العلم، فاهتم أولاً بالأدب والتاريخ، ثم حُبِّب إليه علمُ الحديث. أخذ العلم عن أئمةٍ كبار مثل: زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العِرَاقي (ت 806هـ)، وسِراج الدِّين أبو حَفص عمر بن رَسلان البلقيني (ت 805هـ)، وسِراج الدِّين عمر بن علي بن أحمد المعروف بابن المُلَقِّن (ت 804هـ)، واشتغل بالتصنيف فأكثر منه جدًا. وقد زادت مؤلفاته على مائة وخمسين مصنفًا، ومن أشهرها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، وتهذيب التهذيب، ولسان الميزان، والإصابة في تمييز الصحابة، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ونخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر وشرحها(2).

أخطاء الكتاب شملت أخطاء الكتاب بحسب الرسالتين، تأويل النصوص الواردة في صفات الله تعالى- بحسب منهج ابن حجر- وكذلك تفويض علم بعض الآيات التي تتحدث عن ذات الله، والتفويض معناه أن معنى النص مجهول ولا يعلمه إلا الله تعالى، وكذلك مخالفات أخرى تتعلق بمسائل الإيمان بالله، ومسائل القضاء والقدر وهو ما أعده علماء العقيدة مخالفات في أصول الدين. ومن ذلك مثلا تأويله صفات الله تعالى في محاولة لتنزيهه عن مشابهة خلقه، الأمر الذي أوقعه- بحسب علماء السنة- في التشبيه والتجسيم، ثم تحول ذلك إلى تعطيل هذه الصفات ليصبح الله- تعالى- عن ذلك بدون صفات ذاتية أو فعلية بزعم تنزيهه تعالى ومن هذه الصفات صفة: "اليد والقدم والساق والعين والنزول والإتيان والاستواء والوجه والرحمة والعلو والمجيء والمناجاة والقرب والعندية والاستحياء والغضب والرضا والعجب والضحك والغيرة والفرح والنظر والمحبة والسخط والكره والعندية والعلو والفوق واللإتيان والأصابع والدنو والمعية والرداء".

وذكر صاحبا الرساتلين هذه الأخطاء في مواضعها من الكتاب بداية من المقدمة، ومن ذلك مثلا ما ذكره الشيخ عبدالله العبدلي: "بيان بما جاء من الأخطاء في العقيدة وتوحيد الألوهية، في الأجزاء التي قد اطلعت عليها من فتح الباري بشرح صحيح البخاري تأليف ابن حجر العسقلاتي: مقدمة فتح الباري، ص 136، س2، الفصل الخامس، حرف السين مع الواو: "قوله: [استوى على العرش]: هو من المتشابه الذي يُفوض علمه إلى الله تعالى ووقع تفسيره في الأصل." اهـ وذكر مصنف كتاب " أخطاء فتح الباري في العقيدة" أن محققي "الفتح" ردا على ذلك فقالا: "النصوص من الآيات والأحاديث في إثبات استواء الرب سبحانه على العرش بذاته: محكمة قطعية الثبوت واضحة، لا تحتمل أدنى تأويل، وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها، والإيمان بما دلت عليه وعلى الوجه الذي يليق بالله سبحانه، من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته"(3).

وفي القسم الثاني من الكتاب أورد المصنف ردود الشيخ محب الدين الخطيب على ابن حجر في الكثير من المواضع منها إنكاره إثبات بعض صفات الله تعالى كالحركة والنزول وغيرها: "قال في الجزء السابع ص 124، س 20، حديث رقم 3803، مناقب الأنصار، باب 12: "... فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول..." إلخ ورد الخطيب: "اعلم أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله سبحانه ما اثبته لنفسه من صفات الكمال وما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزهونه عما لا يليق بجلاله وعظمته ولا يتوسعون بإطلاق عبارات تحتمل حقا وباطلا كمثل هذه العبارات المذكورة!!".

ومنها أيضا ما أورده ابن حجر في ( الجزء السابع صفحة 312- 413، حديث رقم 4121، كتاب المغازي، باب 30): "قال السهلي: قوله: من فوق سبع سماوات: معناه أن الحكم نزل من فوق، قال: ومثله: قول زينب بنت جحش: زوجني الله من نبيه من فوق سبع سماوات، أي: نزل تزويجها من فوق، قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه". اهـ ورد محب الدين الخطيب، قال: لا حاجة إلى هذا التكلف فإن هذا الحديث كنظائره من الأحاديث الدالة على إثبات علوه جل وعلا على جميع المخلوقات، علو الذات وعلو القهر وعلو القدر على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة" (4).

وتبقى هذه المراجعات والتصحيحات التي وجهها العلماء في هذا الكتاب لعلم من علماء الأمة، واحدة من أروع الصور في التعامل مع العلم والعلماء، وعدم تقديسهم وتحويلهم من الصورة الإنسانية التي خلقهم الله عليها إلى اشباه آلهة لا يخطئون، كما يعطي التناول العلمي المحايد لأخطاء علم من أعلام الأمة في الرسالتين نموذجا مثاليا لكيفية التعامل العلماء واحترام ما قدوه، والانتفاع بما لديهم من الحق وعدم إسقاطهم بالكلية إذا بدر منهم اي خطأ تطبيقا للقاعدة الشرعية التي تقول: "كل يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم".

 

(1) فهرس الفهارس، للكتاني 1/322-323.

(2) انظر ترجمة ابن حجر في: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع - جـ2/ص36"، للسخاوي، سير أعلام النبلاء، للذهبي.

 (3) أخطاء فتح الباري في العقيدة" في صفحة 5- 6.

(4) أخطاء فتح الباري في العقيدة، 25.


دفاعًا عن الإمام "ابن حجر المصري"