رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«صورة مقلوبة».. محنة خلق القرآن أم الخروج على الحُكام (9)

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

توالت في عصر الفتن مقولات واعتقادات باطلة مست العقيدة وأصل الدين، عصر بني أُمية وبعد مقتل الإمام علي- كرام الله وجهه- صاحب البلاد والعباد ظروف سياسية كثيرة، وبدأ العمل على تفريق كلمة المسلمين وإشاعة مسائل لا تتطلبها حاجاتهم- وقتئذ-.

من هذه القضايا.. "هل القرآن مخلوق؟" وكان أول من أثارها في عصر بني أُمية "الجعد بن درهم " واستنكرها حينها طائفة من المسلمين وتصدوا للرد على كل ما يثيره البعض في هذه القضية، ولزم الصمت بعض التابعين ولعلهم فعلوا ذلك تجنبًا لاتساع الجدل، إلا أنه بعد أن تولي المأمون العباسي أمر المسلمين شرع في تبني رأي المعتزلة في هذا الصدد وهو القول "بخلق القرآن".
هي إحدى الصور المقلوبة في التاريخ التي تتبنها تيارات الغلو والتطرف وتدعي أنه يجب عليهم أن يتبنوا صورة واحدة لفقهاء الصمود أمام محنة خلق القرآن، وأن جميع الفقهاء في عصر محنة خلق القرآن كانوا على ضلالة. 

تم قلب الصورة لمواجهة الحكام في قضايا الحكم بما أنزل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج علي الحكام المسلمين. 

نسى هؤلاء أن كثيرًا من فقهاء هذا العصر صمتوا ولم يتكلموا حتي لا يزيد الأمر فتنة، بل بعضهم قال بعكس ما يعتقد للفرار من الفتنة وحتي لا تكثر الدماء وتتسع رقعة الخلاف بين المسلمين وتضيع هيبتهم مع أعدائهم. كما نسي هؤلاء أن الذي تصدى لهذه الفتنة في أكثر من عهد للخلفاء الأمويين هو الإمام أحمد بن حنبل باعتباره أنه لا يجوز له "التقيَّة" فقط وليس لأنه حامل لواء الدين والعقيدة والشريعة وحده، فقد كان هناك فقهاء أجلاء في عصره. 


عهد المأمون 
كان المأمون دائما ما يردد أن المعتزلة أصحابنا وأخذ يدعو لمذهبهم، بل وقام بحمل بعض الفقهاء من أهل السنة على اعتناق ذلك الرأي "بخلق القرآن"، وتوقف كثيرًا من الفقهاء عن اعتناق رأي المأمون ورفضوا مواقفه لأنه مخالف لموقف الرسول وصحابته. 

بدأ الخرق يتسع ولم يتراجع المأمون وكتب إلى وزيره "أحمد بن داود" الذي كان له ضلع في هذه الفتنة يأمره بحمل الفقهاء بالقوة على القول "بخلق القرآن" وأن يجمعهم ليعلمهم بذلك فمن أقر بأن "القرآن مخلوق" خلي سبيله ومن أبي أعلمه بموقف الدولة الأموية، وكان ذلك في كتاب موجه لهم قال فيه " وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية، ساروا بين خلق الله تبارك وتعالي، وبين ما أنزل من القرآن فاتفقوا مجتمعين على أنه قديم لم يخلقه، وقد قال الله عز وجل فى محكم تنزيله "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا" فكل ما جعله لله فقد خلقه. 

جعل المأمون ووزيره كل من لا يرضي من الفقهاء بهذه المقولة يستدعي وهو موثوق الأغلال مقيد بالسلاسل قائلا: فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا علي السيف، ومنع المفتين والمحدثين منهم أن يقوموا بالفتوى أو بالحديث ما لم يقولوا " بخلق القرآن". 

وهنا يذكر التاريخ الموثق أن الجميع أجابوا ما عدا ثلاثة فقهاء سيقوا موثوقين إلي المأمون فرجع أحدهم في رأيه وهو فى الطريق ومات الثاني قبل أن يصلو إليه، وبقي الثالث وكان هو الإمام أحمد بن حنبل وقبل أن يصل الامام أحمد إلي المناظرة مات المأمون ولكن كانت وصيته لأخيه المعتصم أن يحمل بشدة في هذه القضية علي العلماء والفقهاء وخاصة بن حنبل. 

عهد المعتصم والواثق 
تولى المعتصم الخلافة وعذب بن حنبل وسجنه عشرين شهرا، والإمام مصمم علي رأيه بأن من يقول بشيء لم يصدر فيه حديث غير جائز وحين يئس المعتصم أخرجه من السجن وسمح له بالفتيا فى أواخرعهده، وبعد المعتصم تولي الواثق بالله الخلافة فأعدا المسألة من جديد وسجن وعذب بعض الفقهاء الذين مالوا لقول بن حنبل. 

وجاء الخليفة المتوكل فجنب الفقهاء هذه المحنة بإبعاد الوزير "أحمد بن داود" المحرك والموسوس الفعلي لهذه القضية عن بلاط الخلافة، وعن هذا يقول الشيخ محمد أبوزهرة معلقا على هذه الأحداث "الحق أن القائلين بعدم خلق القرآن لهم وجهة نظر فيما يقولون وليس فيما يقولون كفر أو زيغ بل الذي دفعهم إلي ذلك هو سد الطريق على الذين يحاولون إفساد الطريق على الذين يريدون إفساد المسلمين بتأول بعض العبارات القرآنية تأويلًا باطلًا، كما أن الإمام أحمد ومعه كل المحدثين ما كانوا يريدون الخوض فى ذلك لأنه لا معني فيه ولا توجد فائدة علمية منه".

لم يروِ التاريخ لنا أن أحدا من المسلمين كفر المأمون أو الواثق أو المتوكل رغم ما فى هذه الفترة التارخية من فتن، بحجة مخالفتهم للدين والعقيدة ولم يرو عن أحد من الفقهاء أنه صنع تيارًا أو جماعة لشق صف المسلمين وإسالة دمائهم من أجل محنة "خلق القرآن " رغم خطورة الفتنة وفسادها. 

ونجد أن أهل الغلو والتطرف قلبوا الصورة، وكثيرا ما يستشهدون بمواقف الإمام أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن وصموده أمام الخلفاء لتغير المفاهيم بأنه صمود أمام الحكم بغير ما أنزل الله وتغيير الشريعة وإفساد المسلمين رغم أنها محنة خاض فيها الفقهاء والحكام والولاة أيضًا بطريقة مختلفة تماما عن مفاهيم التطرف السائدة الآن. 

أثارت محنة "خلق القرآن" عناصر غريبة عن بلاد المسلمين، أرادت شغل تفكير المسلمين فيما لا يجدي، وكان من نتيجتها تعذيب هذا الإمام الجليل وتعطيل اجتهاداته الدينية، فهم فقهاء هذا العصر مغزي هذه المحنة فتجنبو فتنتها، ومن أهم دروس الاستفادة من هذه الصورة هو موقف العلماء الذين لم ينجروا للعنف والقتال وبحور الدماء وصبروا على أذى الخلفاء والوزراء والحكام حتي انتهت الفتنة وعصم الله دماء شباب المسلمين المتحمسين من الولوج في حمامات الدماء فى هذه الأثناء.