رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محنة آل البيت في رمضان.. أبو جعفر المنصور والتنظيم العلوي السري «2»

جريدة الدستور

بعد مقتل "الحسين بن على" رضى الله عنه بايع عدد كبير من شيعته، وشيعة أبيه "على بن أبى طالب" أخوه "محمد بن الحنفية"، ولما توفى بايعوا ابنه "عبد الله بن محمد بن الحنفية بن على بن ابى طالب"، ولما أحس بقرب أجله لم يجد سوى "محمد بن على بن عبد الله بن العباس" ليفضى إليه بسر التنظيم العلوي، الذى بناه بإحكام شديد للدعوة سرًا لال البيت، وإعادة حقهم في الحكم إليهم، والدعوة ضد الدولة الأموية، ولما توفى "محمد بن على" نقل الأمر إلى ابنه"إبراهيم"، ولما اكتشفه الأمويون، وقتلوه أوصى لاخيه "أبوالعباس" "عبد الله"، والملقب بالسفاح.

السفاح يهزم الأمويين

استطاع أن يهزم الأمويين ويقيم دولته تحت شعار الرضا لآل البيت، وبعد فترة قصيرة توفى وتولى أخوه "أبوجعفر المنصور" الخلافة، وفي سنة أربع وأربعين ومائة خرج "أَبُو جعفر المنصور" إلى الحج وبدأ يتلقى الناس والوفود ويتفقد أحوالهم، ويتأكد من ولائهم له ولدولته العباسية، وكان في جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ"، الذى رحب به المنصور غاية الترحيب وبسط له وجه الإكرام والكرم فَأَجْلَسَهُ بجانبه، وجَعَلَ يحادثه بإقبال زائد بحيث إن المنصور اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ غَدَائِهِ، ثم َسَأَلَهُ عَنِ ابْنَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ لِمَ يأتيا مَعَ النَّاسِ؟ وكان المنصور يخشى من منازعتهم له الخلافة والملك لما لهما من المكانة والفضل بين الناس وخاصة "محمد بن عبد الله بن الحسن" الملقب بذى النفس الزكية لتقواه وورعه وعلمه وفضله وشرفه بين الناس لذا بايعه جماعة مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ "مَرْوَانَ الْحِمَارِ" آخر خلفاء بنى أمية وقد لقب بمروان الحمار قيل لشدة بأسه وقوة تحمله الحرب والقتال وقيل تشنيعيًا به وتشويه وقد قتل سنة 132 هجرية فى مصر بالفيوم بِالْخِلَافَةِ.

أبو جعفر المنصور فى عنقه بيعة

وكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَنِي العبَّاس، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ خَافَ من "مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ" وأخوه "إبراهيم" خوفًا شديدًا لهذا السبب اهتم بسؤال الأب "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ" عنهما فحلف له أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ.

الخوف السياسى المتبادل

كان "مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ" يخاف ويتوجس من المنصور لذات السبب فهو يعلم ويفهم جيدًا أن المنصور لخوفه منه لن يتركه؛ لذا آثر الاختفاء، والابتعاد حتى لا يدركه المنصور، لكن المنصور المتوجس الخائف لم يتركه لا هو ولا أخوه "إبراهيم" فهو يعلم مكانتيهما بين الناس، وأن دعوته للخلافة كانت قائمة على الرضا لآل البيت من بنى "على بن ابى طالب"، وهو ذاته فى عنقه بيعة لمحمد ذى النفس الزكية لا يستطيع أن ينكرها كلاهما يقرأ ما يفكر فيه الآخر لذا هرب "محمد"، وأخوه "إبراهيم" فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ.

الهروب

بدأت رحلة الهروب من الْيَمَنِ، ومنه إلى الهند فَاخْتَفَيَا بِهَا، فَدَلَّ بعض الناس عَلَى مَكَانِهِمَا فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِمَا أيضًا، فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ كل ذلك والمنصور يتبعهما فى كل مكان ويطلبهما بِكُلِّ طَرِيقٍ فلم يتحقق له ذلك، فَلَمَّا سَأَلَ أَبَاهُمَا عَنْهُمَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ، ثُمَّ أَلَحَّ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فِي طَلَبِ وَلَدَيْهِ فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَا تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا دَلَلْتُكَ عَلَيْهِمَا.

المنصور يعلن الحرب على أبناء علي

هنا ظهرت بوضوح نوايا المنصور وبرزت مخاوفه، فأمر بِسَجْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن الحسن وبيع رقيقه، ومصادرة أمواله، لم يكتف المنصور بذلك بل أمر بسجن بَنِي حَسَنٍ كلهم عَنْ آخِرِهِمْ فَحَبَسَهُمْ، وَجَدَّ فِي طَلَبِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ ورصد لذلك الاموال والجند وأعلن الحرب على ابناء على وذريته وقد اغتاظ لذلك جماعة من اشياع وانصار العلويين وكان منهم أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْعَسَاكِرِ خَالِدُ بْنُ حَسَّانَ، فَعَزَمُوا على الفتك بالمنصور بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَنَهَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ لِشَرَفِ الْبُقْعَةِ.وَعرف الْمَنْصُورُ بذلك فقبض على هذا الْأَمِيرُ، فَعَذَّبَهُ حتى أقر بما كانوا تمالؤا عَلَيْهِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ.فَقَالَ: وَمَا الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ فَغُيِّبَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَظْهَرْ بعد ذلك، وبعث المنصور الجواسيس في طول البلاد وعرضها يبحثوا عن ولدى عبد الله بن الحسن فَلَمْ يَقَعْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ، وَلَا ظَهَرَ لَهُمَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، وَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ يَا أمة! إني قد شفقت عَلَى أَبِي وَعُمُومَتِي، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضَعَ يدي في يد هؤلاء لأريح أهلي.

رسالة من السجن

ذهبت أمه إِلَى السِّجْنِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ مَا قَالَ ابْنُهَا، فقالوا: لا ولا كرامة، بَلْ نَصْبِرُ عَلَى أَمْرِهِ فلعلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا، وَنَحْنُ نَصْبِرُ وَفَرَجُنَا بيد الله إن شاء فرج عنا، وإن شاء ضيق.

المنصور يقتل ذرية على بن أبى طالب

وهنا أعلن الفريقان بنو العباس والعلويون الحرب بلا خفاء ونقل المنصور آل الحسن من حبس الْمَدِينَةِ إِلَى حَبْسٍ بِالْعِرَاقِ وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْقُيُودُ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ. فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ على المنصور وقال: وَاللَّهِ يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسرائكهم يوم بدر، وَكَانَ من بين السجناء مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حسن، فَأَحْضَرَهُ الْمَنْصُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدًا، ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ وَسَدَّ عَلَيْهِ حتَّى مات ثم قتل الكثير من بنى الحسن وكان منهم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ علي بن أبي طالب ذاته، وأخوه إبراهيم بن الحسن، وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ جعلهم المنصور في سجن لا يسمعون فيه أذانا، ولا يعرفون فيه وقت صلاة.

الإمام أبو حنيفة يتشيع لآل البيت

هذا كله ومحمد ذو النفس الزكية وأخوه ينتقلان من مخبأ لآخر حتى ضاق بهم الامر وتألما لموت أبيهما، وأعماميها، وأكابرهما، والشباب، فقررا الدعوة للخروج على المنصور، ومواجهته لاسيما وأن أكابر العلماء، والفقهاء كانوا يؤيدونهما، وعلى رأس هؤلاء "ابوحنيفة" بالعراق، ومالك بالمدينة وقد كان عبد الله ابو محمد ذو النفس الزكية الذى قتله المنصور من شيوخ "أبى حنيفة"، فغضب "أبو حنيفة" لمقتله وانحاز كما انحاز من ذى قبل لآل البيت فى ثورتهم فجاهر "أبو حنيفة" بوجوب نصرة "إبراهيم" أخي النفس الزكية الذى قدم للبصرة يستنصر أهل العراق فأفتى "ابو حنيفة" بأن الاصطفاف مع "إبراهيم" جهاد فى سبيل الله، وقربة أفضل من خمسين حجة، وبلغ الأمر بأبي حنيفة أنه فضّل القتال ضد الخليفة العباسي على القتال ضد البيزنطيين، والمرابطة على الثغور، وراح يحرض على ذلك بكل جرأة حتى روى عنه أنه لقى رجلًا فسأله أبو حنيفة: من أين أقبلت، وأين أردت؟ فقال: أقبلت من الشام وأردت أخًا لي قتل مع إبراهيم. فقال: لو أنك قتلت مع أخيك كان خيرًا لك عن المكان الذي جئت منه. قال: فما منعك أنت من ذاك؟ قال أبو حنيفة: والله لولا ودائع كانت عندي وأشياء للناس ما استثنيت نفسى من ذلك.

لم يكن ذلك غريبًا على أبى حنيفة الذى واجه "المنصور" فى مجلسه بلا أدنى تردد حينما جمع المنصور "مالكًا" وابن "أبى ذؤيب" وأبا حنيفة وسألهم عن خلافته ما يقولون فيها ؟ فقال مالك قولًا لينًا، وقال ابن أبى ذؤيب قولًا عنيفًا وقال أبو حنيفة: إنك لم ترد باجتماعنا وجه الله وإنما أردت أن تُعلم العامة أنا نقول فيك ما تهواه مخافة منك، ولقد علمت أنك وليت الخلافة وما اجتمع عليك اثنان من أهل الفتوى والخلافة تكون باجتماع المؤمنين ومشورتهم لقد كان أبو حنيفة متشيعًا فى مذهبه السياسى مناصرًا لآل البيت لذا كان موقفه فى هذه الثورة فى غاية الجرأة حتى جعلت بعض اصحابه يقولون له: والله ما أنت بمنته حتى تضع الحبال فى أعناقنا وقد ذهب ابو حنيفة بالفعل ضحية لتشيعه السياسى لال البيت فقد اضمر المنصور لأبى حنيفة مواقفه هذه حتى جاء الوقت المناسب فسجنه ودس له السم فقتله لكن ثورة محمد ذى النفس الزكية مازالت مستمرة فنكملها لاحقًا.