رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفكار قاتلة.. تحريف معنى «الطاغوت»

جريدة الدستور

الفكرة عقيدة، والعقيدة قاطرة، فلا تتحرك الجيوش إلا بفكرة، ولا تقصف المدافع إلا حماية أو أودفاعًا أوهدمًا لفكرة، فالأفكار تبنى أو تهدم، وبها تُحرق أوطان، أو تقسم بلدان، أو تقام حضارة وعمران، وفى عالمنا العربى والإسلامي، صرنا نرى بالفكرة دماء تسيل، وثروات تنهب، وآهات وعذابات، وطاقات مهدرة، إنها فكرة الإرهاب باسم الدين، إرهاب ينطلق من مجموعة من التصورات الشرعية، التى تكفل له الحشد عبر دعوة لمعالم منهجية عقدية لا تقبل النقاش ولا الاختلاف حولها، تضمن هذه التصورات والنظريات الفكرية المنهجية فصل الأعضاء المنتمين إليها عن مجتمعاتهم التي يعيشون فيها، وتماسك التنظيم وتكوين عقيدته القتالية تمهيدًا للمواجهة التي تسعى إليها معجلة أو مؤجلة، ومن ثم فلن نبالغ إن قلنا أن بلادنا اليوم تحرقها تلك الأفكار، ومن أخطر هذه الأفكار فكرة "الكفر بالطاغوت"، التي حولها أصحاب الفكر المنحرف عن معناها إلى شكل آخر يستندون إليه بتأويلاتهم الباطلة في استحلال دماء المسلمين وأموالهم.

قاعدة "الكفر بالطاغوت"

استطاع أبو محمد المقدسى أحد أبرز المنظريىن لتنظيم "القاعدة"، أن يكفر كل المسلمين وينفي أي وجود للمجتمعات الإسلامية غير جماعته وأتباعه، فبضربة واحدة وبمعادلة بسيطة كفر كل الناس فى كل بقاع الأرض، مقتديًا بغيره من التكفيريين الدمويين أمثال "سيد قطب"، ورفاقه محاولًا أن يشرعن قتله للأبرياء، وسفكه للدماء بغطاء من الشرع والدين، عن طريق تحريف قاعدة "الكفر بالطاغوت" واعتبار جميع حكام المسلمين، ومن رضي بحكمهم سواء من الجيوش والشرطة والموظفين والمواطنين كلهم عباد للطواغيت.
تركيب معادلة الدم
يبدأ المقدسى بتركيب المعادلة الفكرية القاتلة فيقول: إن الله قد بعث الرسل لأجل أن يُعبد الله ويجتنب الطاغوت، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) سورة النحل".
ثم يفسر الطاغوت بأنه الحاكم الذى يحكم بغير ما أنزل الله ومن ثم فهو كافر ويستند إلى قوله تعالى: "يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ" ﴿٦٠ النساء﴾.
وما سبق حق يضيف له باطله بالتفسير والتركيب فيقول: فكل من يحكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت كافر، ومن ثم فكل حكام العالم الإسلامى اليوم كفار وطواغيت، وكل من أطاعهم وأيدهم فقد أطاع وأيد الطاغوت، وعبد غير الله فهو كافر أيضا لقوله تعالى "الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴿٢٥٧ البقرة﴾، وكل من أيد الطاغوت وأطاعه استحق القتل والقتال لقوله تعالى فالذين آمنوا يُقاتلون فى سبيل الله بينما "وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ﴿٧٦ النساء﴾.
هكذا ركب الإرهاب معادلته أخذ حقا وأراد به باطلا، ففسره بهواه وشرحه كما يحب وحكم بما يريد.

تفكيك الفكرة

إن الكلمة "الطاغوت" وردت فى سبعة مواضع من القرآن الكريم، وتعرض المفسرون لمعناها منذ القدم فقالوا: الطاغوت هو الشيطان، وقيل الأصنام، والأوثان، وقيل الكهنة، وقيل بالجملة الطاغوت هو كل ما عبد من دون الله.
فهل يوجد أحد من المسلمين اليوم يعبد شيطانًا أو صنمًا أو إنسانًا كائنا من كان حتى يصح وصفه بأنه يعبد الطاغوت، إنها إشكالية آبائهم الأولين من الخوارج الذين اعتبروا اي معصية من العبد بتركه لأمر الله وطاعته للشيطان كفر بالله وعبادة للطاغوت.
إن للإيمان أركانا ستة من جاء بها فهو مؤمن بالله ولم يكن يخطر ببال أحد من المفسرين أن يأتي يوم يضاف فيه ركن جديد للإيمان وهو توحيد الحاكمية انطلاقا من قاعدة الكفر بالطاغوت.
فالأيمان بالله معناه الكفر بما سواه فمن آمن بالله كفر بكل معبود سواه على الإجمال والتفصيل، وهذا هو الكفر بالطاغوت، أي كل من يعبد من دون الله، لكن الجماعات المنحرفة دائمًا ما تعمد إلى تسليط الأضواء على تفاصيل معينة وتضعها فى غير موضعها وتعطيها حجمها غير حجمها فيلبسون بها على الناس دينهم.

نسف الفكرة

أقام المقدسي وأشباهه من المضلين أحكام الكفر على مستدلين بآية من سورة النساء:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا "النساء:60-61.
قال الطبري في تفسيره: هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين، دعا رجلًا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان، ليحكم بينهم ورسول الله بين أظهرهم.
ثم قال رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أَلَمْ تَرَ " يا محمد بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت، يعني إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، " وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ " يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه، فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ " يعني هلموا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم بيننا " رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ " يعني: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم" انتهي كلام الطبري.
ومما سبق يتبين أن الآية تتحدث عن قوم منافقين ابتداء غير مسلمين أراد الله كشفهم لنبيه، هؤلاء المنافقون يعرضون عن حكم الله وحكم رسوله ويدعون الناس ويصرفونهم عن أمر الله وعبادته إلى عبادة غيره واتباع شرع غير شرعه، يأتى هذا التحاكم بناء على إيمان بالطاغوت وكفر بالله وهو حر مختار راض به ومقدما له على الله ورسوله، فأين ذلك كله من المسلمين اليوم؟.
إن الجماعات الإرهابية تعيد إنتاج فكر الخوارج الذين يكفرون المسلمين باقتراف المعاصي، وإنزال الأحكام الواردة في الكتاب والسنة في غير مواضعها بتأويلاتهم الباطلة للآيات التي أنزلها الله في الكافرين والمنافقين وتطبيقها على المسلمين.

ثناء النبي على حلف المطيبين

فالنبي يقول عن حلف المطيبين كما أخرج البخاري في الأدب المفرد، عن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" شهدت مع عمومتي حِلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم "وهذا الحلف تتوافر فيه عناصر الحكم والتحاكم من فضٍّ للنزاعات بين الظالم والمظلوم، وأن القائمين على هذه المهمة كانوا من كبار المشركين، ومع ذلك فالنبي قد أثنى عليه خيرًا، وما أحب أن ينقضه ولو بحمر النعم.
تحاكم الصحابة للنجاشى رغم كفره الأصلى
وتحاكم الصحابة للنجاشي يوم أن كان حاكمًا كافرًا، وقبل أن يُسلِم وهو يُحاكم الصحابة ويُسائلهم، وهم يُدافعون عن أنفسهم ودينهم بالحجة والبيان حتى لا يُسلمهم ثانية إلى كفار قريش، فى موقف تتوفر فيه جميع عناصر المحكمة والمحاكمة من "محكمة"، و"حاكم" كافر متمثل في النجاشي، ومرافعة أكثر من مرة أمام الملك من قبل ممثلى ثم مرافعة من قبل جعفر بن أبي طالب ممثلًا للمسلمين أعقب ذلك قرار وحكم من قبل الحاكم يقضي بعدم تسليم الصحابة إلى كفار قريش ثم بقاؤهم تحت حكمه وفي ملكه ولم يقل أحد ولا يجرؤ أن يقول: أن الصحابة بفعلهم هذا قد تحاكموا إلى الطاغوت.