رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشريعة الإسلامية والحضارة «1-2»


تخاطب الشريعة الإسلامية المكلفين فى كل مكان وزمان وتنظم جميع جوانب الحياة البشرية، ومن هنا كانت حضارة لها ملامحها المميزة ولها خصوصيتها وطابعها. لم تكن حياة البشرية قبل الإسلام تختلف كثيراً رغم الفرق الهائل فى مستوى الرقى الذى بلغته الإنسانية اليوم

إن الحضارة ليست فى تطاول البنيان واتساع الشوارع وانتشار وسائل الاتصال المتطورة ونحو ذلك، بل إلى جانب ذلك لابد من مجموعة القيم الثابتة كالإيمان والصدق والعدل والوفاء بالعهود والتعاون واحترام كرامة بنى آدم، وهى التى تجعل من تلك المنجزات أداة للخير والصلاح، وليس أدوات شر وفساد وتدمير، كما هو الحال فى الحضارة الغربية المعاصرة. وأياً كان الأمر، فإن مبادئ الشريعة الإسلامية فى شقها «المدنى» أو «الحضارى» لا تمكن مقاربتها إلا كنظام قانونى وطنى، بغض النظر عن المعتقد الدينى أو حتى الطائفى أو المذهبى لأى نسبة من المواطنين، بحيث يمكن النظر إلى الشريعة نظرة «موضوعية» خالصة من شوائب التكفير واحتكار الخلاص الأخروى، أى كشريعة نابعة من إرث حضارى مشترك بين جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية أو المذهبية.

تخاطب الشريعة الإسلامية المكلفين فى كل مكان وزمان وتنظم جميع جوانب الحياة البشرية، ومن هنا كانت حضارة لها ملامحها المميزة ولها خصوصيتها وطابعها. لم تكن حياة البشرية قبل الإسلام تختلف كثيراً رغم الفرق الهائل فى مستوى الرقى الذى بلغته الإنسانية اليوم، فقد كانت حياة العرب فى الفترة التى سبقت ظهور الإسلام، والتى عرفت بالجاهلية تتسم بالغلو فى الحريات، وغلبت عليها الماديات فكان الإنسان سلعة رخيصة يسفك دمه ويهدر عرضه من أجل نزوة عابرة، وها نحن اليوم نعيش ذات العصر ولكن بأسلوب علمى متقدم. وهكذا أيضاً تزول عن الدولة الصبغة الإيديولوجية الدينية، فتكون دولة مدنية محايدة، أما المفاهيم والقيم المنبثقة عن الشريعة الإسلامية كوعاء حضارى وكرؤية كونية للمجتمع ككل فيتضمنها الدستور، ولا يمثلها أى تيار سياسى معين وتخرج من دائرة الصراع السياسى. وقد شهد بفضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية أبناؤها، يقول الفيلسوف الفرنسى «جوستاف لوبون» فى كتابه «حضارة الغرب»: «هل يتعيَّن أن نَذكُر أن العرب - والعرب وحدهم - هم الذين هدَونا إلى العالَم اليونانى والعالم اللاتينى القديم، وأن الجامعات الأوروبية - ومنها جامعة باريس- عاشت مدة ستمائة عام على ترجمات كتُبِهم، وجرَت على أساليبهم فى البحث، وكانت الحضارة الإسلامية مِن أعجَب ما عرَف التاريخ».

بدأ الحديث عن الخصوصية العربية الإسلامية منذ مطلع القرن فى خضم الدولة الاستعمارية القديمة والحركة الثقافية المتأثرة بها والتى جرت مقاومتها دائما، وفى الخطوط الكبرى عبر تيارين: تيار محافظ ومنغلق على نفسه، وتيار إصلاحى متقبل لأفكار الغير مع التمسك بمقومات ثقافية عامة نابعة من التراث الدينى ومنظومة القيم الاجتماعية والاعتقادية السائدة. فمنذ مطلع القرن، خصص جمال الدين الأفغانى كتابا للرد على الدهريين، ونقرأ عند هذا المفكر نقدا حادا للوجود الاستعمارى مع حث على اقتباس العلوم والمعارف عند الأوروبيين. كذلك فعل عبد الرحمن الكواكبى حين أكد ضرورة وضع حد للنظام السياسى الاستبدادى العثمانى وشجب احتلال العديد من الدول الإسلامية من قبل فرنسا وبريطانيا، الأمر الذى لم يمنعه من التعاطف مع تصور اشتراكى ديمقراطى للحكم يجد مشروعيته فى الإسلام الأول المناهض بطبيعته لمنظومة الخلافة وأئمة الاستبداد.

■ خبير قانون عام - جامعة الدول العربية