رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وسط البلد.. القاهرة العظيمة المظلومة!

الواعون النبهاء من المبدعين والمثقفين يفقهون أن "منطقة وسط البلد" ليست هي القاهرة بالضبط، القاهرة أكبر بكثير جدا، وما هذه المنطقة إلا نقطة تجمع ولقاء، يسلي فيها أصحاب الأقلام والأفكار أوقاتهم بالكلام والغناء وما إليهما، وهي منطقة حاشدة بالأماكن التي قد يشمئز منها العابرون العاديون بالمناسبة، كالخمارات المحضة، والأندية والمطاعم التي تحوي مراقص ومشاريب محرمة..
الضحال الغافلون من هؤلاء المذكورين يعتبرون المنطقة نفسها محطة وصول نهائية؛ فما داموا فيها فقد بلغوا الآمال، وصاروا معروفين، وتحققت أحلامهم بالفعل..
لا تشبه المنطقة قاهرتها شبها كاملا، قدر ما تشبه الطراز الباريسي المحيط بها من كل جانب، وهو ما يحيل إلى وصف الدكتور "طه حسين" الشهير لباريس حين دخلها في أوائل القرن العشرين، وإلى الوصف المطابق للأديب والمفكر والمؤرخ "أحمد أمين" من خلال بعثته إليها بذات التوقيت؛ ذلك أنهما وجداها مدينة حالمة عاشقة وديعة كأنها الملائكة، ومتحررة بشدة كأنها مرتع خصب للجن، وتحررها الشديد صدمهما حينذاك، بالمناسبة، ككيانين شرقيين يقلقهما الانفلات.
وسط البلد كباريس، مدينة للجن والملائكة بالمثل، فالمنطقة مدينة داخل المدينة العاصمة، ومدينة تمثل مدينتها وعاصمتها أيضا مهما تباينت الملامح، والمنطقة تبدو ملائكية فعلا كما تبدو زاخرة بالجن من كل الصنوف والألوان!!
مشكلة المبدعين والمثقفين، لا سيما المختلفين عن السائد، أنهم يصنعون أساطير من الأشياء العادية؛ فقد كان من الممكن أن تظل المنطقة بسيطة وحميمة، في صفاء كامل، لولا أنهم تزيدوا بشأنها تزيدا أقصى عنها جملة طويلة من المبدعين والمثقفين الآخرين، ممن يحسبهم الحاسبون على تيارات متحفظة، أو تيارات لا تتعمد الصدام مع المواريث الدينية ولا الاجتماعية، ولا تتقاطع مع الأنساق الأخلاقية المعروفة، والمهم أن المنطقة صارت محل شبهة بمعنى ما، وإن عددنا الأمر على هذا النحو تزيدا من الجهة الثانية، إلا أن أسبابه مفهومة للأمانة، على رأسها تناقض طائفتين معتبرتين تمران بالمنطقة، المنطقة التاريخية الباهرة التي ظلمها الجميع باستمرار..
لا أرسم هنا خريطة لزائر المنطقة، ولا أوفر له دليلا يدنيه من ملائكتها ويقصيه عن جنها، إنما أؤكد خصوصية المنطقة بذاتها، وتكالب الناس على لحمها وعظامها، كما لو كانت فريسة سهلة، وليست بسهلة، وكما لو كانت الوجبة الوحيدة الباقية، ومسموح للجائعين والجائعات تنافسهم عليها وتمزيقهم إياها! 
أنا، باختصار، أناشد نخبة من الصديقات والأصدقاء، نخبة مستنيرة رائعة حقا، أن تلتزم بمحبة المنطقة، والمحبة رعاية صادقة بلا ريب، أن تلتزم الجماعة المقصودة بهذه المحبة، بين الصخب الرهيب والهدوء الآسر وبين الجموح اللافت والرزانة المدهشة، وأن يكف أفرادها عن العيش بمنأى عن العالم في أجواء منطقتهم الأثيرة، وأن يحرصوا على وقارهم في آفاقها، وليس الوقار امتناعا عن البهجة ولو طغت، وأن يقربوها تقريبا حميما للمنكمشين.