رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تديُّن الستينيات فى «دولاب السياسة والإعلام»

 

يحمل الزى دلالة لا تخطئ على ثقافة أى مجتمع أو جماعة. فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، كان الجلباب هو الزى المعروف للرجال، داخل الطبقات الشعبية، يوضع من فوقه البالطو أو الجاكت فى الشتاء، وفوق الرأس يتربع «الطربوش» داخل المدن، والعمامة أو الطاقية داخل الأرياف التى كان بعض رجالها يفضلون استبدال العباءة بالبالطو، وبالنسبة لسيدات هذه الطبقات، كان الشائع هو الفستان أو الجلباب طويل الأكمام، ومن فوقه تتلفح السيدة بالملاءة، وتعصب شعرها أو تلفه مع وجهها بطرحة غير مُحكمة بحيث تمنح لجزء من شعرها فرصة للظهور، أما الطبقات الأعلى فكانت ترتدى البذلة الرسمية التقليدية ويجلل رأسها «الطربوش» ويعتلى البالطو «البذلة» أيام الشتاء.

لم يكن ثمة خلاف بين المصريين على الزى، فأزياء الفلاحين معروفة وتعد علامة مسجلة عليهم، وأزياء العمال معروفة، والأزياء العامة المقترنة بالطبقات الشعبية لا تدع فرصة لوجود فروق بين هيئة الناس إلا فى لون الزى، وأزياء الطبقات الأعلى وشكل البذلات وطرزها وطرق تفصيلها تجعلها علامة فرز ودلالة على أن صاحبها ينتمى إلى طبقة الأفندية أو البهوات أو الباشوات. 

كان لرجال الدين خلال هذا العصر أزياء محددة وذات سمات معينة تتكون من الجلباب الممنطق بحزام والقفطان وعمامة الرأس، لكنها لم تكن مقصورة عليهم، إذ كان يصح لغيرهم أن يرتديها، فقد كان بعض معلمى المدارس، خصوصًا معلمى اللغة العربية يميلون إلى ارتدائه، وأحيانًا بعض الأعيان وذوى القيمة والمنزلة بالريف. 

لم يكن موضوع «الأزياء» من الموضوعات المطروحة للجدل أو النقاش بين المصريين، فكل إنسان حر فى الزى الذى يرتديه، وهو فى كل الأحوال ملتزم بالطقوس الحاكمة للطبقة أو الفئة التى ينتمى إليها، وامتد هذا التعامل الهادئ مع موضوع الأزياء، حتى الستينيات، سواء فيما يتعلق بحرية الاحتفاظ بما هو تقليدى، فقد ظل البعض خلالها محتفظًا بارتداء «الطربوش»، أو بالتماس أزياء تتسق مع «الموضات» السائدة فى العصر، مال قطاع من السيدات والفتيات إلى ارتداء الملابس القصيرة، دون أى مشكلة، واحتفظت أخريات بالفساتين التقليدية المحتشمة، أو بارتداء الجلباب، ومن فوقه «الملاءة» المصرية الشهيرة.

لم تكن هيئة أو شكل اللبس موضوعًا للجدل بين المصريين، خصوصًا من زاوية الدين، كان الممكن أن يناقش من بوابة اللياقة من عدمها، والعصرية أو التقليدية، والسعر والذوق وغير ذلك، لكنه بحال لم يكن مبحثًا دينيًا، ولو أنك راجعت على سبيل المثال بعض الأحاديث الدينية التليفزيونية الموروثة عن زمن الستينيات، فستجد أن موضوع زى المرأة وجدل الحجاب والنقاب، وكذلك موضوع زى الرجل وطول الجلباب الذى يرتديه لم يتمتعا بنسبة حضور يلفت الانتباه إليها، بل إن أشهر مشايخ الأزهر فى ذلك العصر «الشيخ محمود شلتوت» أفتى أن السفور أو الحجاب مسألة مرتبطة بالبيئة.

تدين المصريين فى الستينيات غلب عليه الابتعاد عن الجدل، لأن السلطة السياسية فى ذلك العصر أغرقت الجمهور فى العديد من القضايا الداخلية والعربية والدولية، لم تترك مساحات لوجود موضوعات التدين على أجندة الاهتمام، خصوصًا داخل وسائل الإعلام. ليس معنى ذلك أن دولاب السياسة أو الإعلام لم يهتما بمسألة التدين، فقد كان هناك اهتمام بتوظيف الدين كوسيلة للحشد والتعبئة من ناحية، بالإضافة إلى إبراز أوجه التدين الاحتفالى من ناحية أخرى.

داخل دولاب السياسة كان هناك اهتمام بتوظيف الدين فى المعركة الكبرى التى سيطرت على حياة المصريين خلال حقبة الستينيات، وما قبلها وما بعدها، معركة الصراع العربى الإسرائيلى، وما أكثر ما كان يتردد داخل هذا الخطاب وأدوات إعادة إنتاجه عبارات أن الله معنا فى صراعنا العادل مع إسرائيل، وأن الجهاد ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية المساندة لها واجب على كل مسلم، بالإضافة إلى استدعاء معارك النبى، صلى الله عليه وسلم، مع يهود يثرب. اهتم الخطاب السياسى أيضًا بالحديث عن أن كل «الأديان» التى تنبذ التعصب وتدعو إلى التسامح والحياة الهادئة، والتوحد بين قلوب المؤمنين فى محبة الوطن، والسلطة التى تحكم الوطن بالطبع، بالإضافة إلى اهتمامه بالتأكيد على الوجه الاشتراكى فى الإسلام.

أوجه التدين الاحتفالى كانت ظاهرة أيضًا فى حياة المصريين خلال فترة الستينيات، فانتعشت الموالد، وانتشرت فى كل أنحاء مصر، ورعتها السلطة القائمة، واهتمت وسائل الإعلام بالبرامج الدينية، التى امتازت بمستواها العالى فى ذلك الوقت سواء على مستوى الإذاعة أو التليفزيون، كما اهتمت الوسيلتان بتطوير خرائطهما البرامجية لمواكبة الاحتفالات الدينية المختلفة التى يبتهج بها المصريون، مثل الاحتفال بمولد النبى، صلى الله عليه وسلم، وذكرى الهجرة، وذكرى عاشوراء، والإسراء والمعراج، والأعياد، وحظيت المادة الدينية باهتمام وحضور بالغى التأثير خلال شهر رمضان.

ساعد على إمتاع المصريين بهذه الاحتفالات مجموعة الأصوات التى اشتهرت بتلاوة القرآن الكريم أو الابتهالات الدينية خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى القصائد والأغانى الدينية التى دوت بها حنجرة أم كلثوم، وغيرها من كبار المطربين، على أنغام رياض السنباطى، أشهر من تخصص فى تلحين هذا اللون الغنائى.

هل معنى ذلك أن التشدد غاب خلال فترة الستينيات؟ مؤكد أن ذلك لم يحدث، فقد كان قائمًا وموجودًا عبر أفكار وممارسات الإخوان، لكنه كان محاصرًا نتيجة الصدامات العنيفة بين جمال عبدالناصر والجماعة، وهو الصدام الذى استثمرته الإخوان فى بناء حائط مظلومية كبير، حول التعذيب وامتهان كرامة الإنسان فى سجون الستينيات، وكان لهذا الخطاب صداه لدى قطاع من المصريين، ممن تعاطفوا مع الجماعة، وعمق من هذا التعاطف الحكايات المتداولة شعبيًا حول قمع المخالفين فى الرأى، وقد أدى ذلك إلى تبنى البعض للرواية الإخوانية للأحداث والصراعات التى شهدتها مصر خلال هذه الفترة، ولم يعط أذنًا للرواية الأخرى التى تقدمها السلطة، بسبب ما يحسه منها من محاصرة وقمع.

يذكر «لورانس رايت» صاحب كتاب «البروج المشيدة» أن محفوظ عزام، خال «أيمن الظواهرى»، كان يحكى لشقيقته عن آراء سيد قطب وموقفه من عبدالناصر، وما يتعرض له أثناء التحقيق، وفى السجن، فى حين يسمع الطفل الصغير، وأن «أيمن» تأثر بهذا الحكى بدرجة كبيرة، إلى درجة أنه كان خارجًا مع شقيقه من صلاة الفجر بأحد مساجد المعادى، حين قابلهما السيد حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت، فعرض على الطفلين توصيلهما إلى منزلهما، فرد عليه الطفل «أيمن» بثبات ورباطة جأش: «نحن لا نركب مع من يقتلون المسلمين».

لست أدرى مدى دقة هذه الحكاية، لكنها تشهد على إشكالية أساسية وقع فيها العقل الشعبى المصرى، حين خلط بين الإسلام وبعض الأفراد أو الجماعات، أسهم فى تكريسها الأداء العام للسلطة الفردية المرتكز على احتكار عملية صناعة القرار.