رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التوازن الاستراتيجى لمصر«2»

أشرت فى المقال السابق إلى العلاقات بين مصر وتشاد فى إطار إعادة التوازن الاستراتيجى الذى تنتهجه مصر منذ عام ٢٠١٤. وهذا المقال يكمل رصد وتحليل زيارات بعض رؤساء الدول الإفريقية من خلال قراءة عامة وصورة بانورامية للعلاقات الاقتصادية ذات الأبعاد السياسية. سنبدأ بزيارة الرئيس الجزائرى فى ٢٤ يناير، وهى زيارة تحمل معها أكثر من ملف سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا، فالجزائر مزدوجة الأهمية بالنسبة لمصر، فهى مثل مصر إفريقية عربية فى آن واحد، وقد تتدعم الأهمية فى الفترة المقبلة عبر التوافق حول بعض القضايا المتعلقة بالاستقرارين السياسى والأمنى فى المنطقتين العربية والإفريقية، وبالطبع لذلك أثره على العلاقات الاقتصادية التى على الرغم من أن الإحصائيات تشير إلى وجود علاقة جيدة نوعًا، ولكن ثمة أملًا أن يتحقق الكثير من التعاون الثنائى.

وقد ارتفع التبادل التجارى بين البلدين بنسبة ٤.٢٪ عام ٢٠٢١ عند مقارنته بعام ٢٠٢٠، ولكنه ما زال فى حاجة لخطوات نحو الارتقاء إلى علاقات أكثر ارتباطًا، وقد يحدث ذلك عبر القيام ببعثات تجارية، ومؤتمرات قائمة على دعوة رجال أعمال البلدين، وتقديم بعض التسهيلات والمميزات، خاصة أن الجزائر يتوقع أن تكون من الدول المؤثرة بشكل أكبر فى سوق النفط والطاقة العالمى، وهذا ما يفتح المجال لتكثيف التعاون فى مجال الطاقة والكهرباء، الذى ينعكس بدوره فى زيادة حركة الصادرات والواردات، ومن ثمّ العمل على تسريع الممر الملاحى الذى يربط مصر بالجزائر، وهو ما يخفض من تكاليف الشحن وسهولة نقل البضائع. وربما يساعد هذا الإنعاش فى تعزيز العلاقات مرة أخرى إلى إحياء وتطوير مشروع «طريق المحيط». وهو مشروع اقترحته مصر فى تسعينيات القرن الماضى، ويتمثل فى طريق يبدأ من موريتانيا مرورًا بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان وينتهى فى مصر، ومستقبلًا يمكن ربطه بالخليج عن طريق مصر، هذا المشروع فى حال تحققه- بعد استقرار بعض البلدان التى تمر حاليًا بظروف سياسية وأمنية غير مواتية- قد يحدث نقلة نوعية فى تحقيق التكامل الاقتصادى العربى الإفريقى. 

فيما يخص زيارة رئيس الدولة السنغالية، التى تولت رئاسة الاتحاد الإفريقى منذ أيام قليلة. فإن هذه الزيارة ثمثل خطوة مهمة نحو تعزيز العلاقات الثنائية. وتأتى أهميتها أيضًا على مستوى مهم وهو الأمن القومى، حيث إنها ستستضيف المنتدى العالمى للمياه خلال الفترة من ٢٠: ٢٧ مارس، وهذا المنتدى ستطرح فيه قضايا الأمن المائى، وسيكون لملف سد النهضة حظ من النقاش والحوار لارتباطه بثلاث دول إفريقية كبرى. لكن الاقتصاد هو الأمر الأكثر أهمية فى التأثير على العلاقات السياسية، أى كلما زادت الروابط الاقتصادية، زادت المنافع والمصالح المشتركة بصورة أكثر، وبالنظر إلى العلاقات الاقتصادية بين مصر والسنغال سنجد أنها تزداد قوة منذ عام ٢٠١٤، أى منذ عودة الاهتمام بإفريقيا فى السياسة الخارجية المصرية. فقد خططت مصر لتكثيف الشراكة الاستثمارية والتجارية بينها وبين السنغال، وهذا ما ساعد على زيادة حجم التبادل التجارى إلى ٦٧.٦ مليون دولار ٢٠٢٠. وتستهدف الدولة المصرية أن يرتفع الرقم إلى ٢٠٠ مليون دولار ٢٠٢٥، وذلك فى إطار خطط لزيادة صادراتها إلى الأسواق الإفريقية بـ١٠٠ مليار دولار. وبالطبع هذه خطوة مهمة جدًا، فهذا التوجه المكثف من خلال العلاقات الاقتصادية، سيكون ذا مردود على الطرفين، ويفتح السوق أمام المنتج المصرى ليس لدولة السنغال فقط بل على مستوى دول الإيكواس بوجه عام، وهذا بدوره سيعود على مصر بمنافع اقتصادية عدة فى مقدمتها النقد الأجنبى، ويرتبط تحقيق ذلك بالقدرة على تقديم المزيد من الخدمات اللوجستية الداعمة للتصدير.

وفى النهاية أريد أن أشير إلى ما يخص منطقة القرن الإفريقى ذات الأهمية البالغة فى التوازن والاستقرار الإقليمى، إذ إنها تطل على البحر الأحمر والمحيط الهندى، كما أنها قريبة من مضيق باب المندب، ولذا فهذه المنطقة تعد هدفًا لكل القوى الساعية للنفوذ فى البحر الأحمر والشرق الإفريقى كله، كما تتداخل هذه المنطقة جغرافيًا مع دول حوض النيل، ومن هنا تأتى أهمية دولة جيبوتى، وأهمية زيارة رئيسها الأخيرة لمصر. وفضلًا عن أهمية الدولة السياسية، هناك فرص أكبر للاستثمار الاقتصادى، فهى دولة واعدة فى هذا المجال، وقد تفتح آفاق التعاون معها أمام مصر سهولة النفوذ والتبادل التجارى مع وسط وشرق إفريقيا، ولكن ذلك يتطلب من الدولة المصرية توفير الدعم الذى يحتاج إليه المستثمرون لحثهم على الاستثمار، وإرسال بعض الشركات المصرية لتشارك فى إنشاء البنية التحتية التى تحتاج إليها جيبوتى، خاصة أننا نمتلك خبرات كبيرة فى هذا المجال بعد الطفرة التى حدثت لمصر فى السنوات الأخيرة.

كل هذا يعنى أن الدولة المصرية تعى تمامًا أن قوتها تأتى من قوة محيطها الإفريقى، ومن هنا تعمل الدولة على أن تكون العلاقات بينها وبين إفريقيا، سواء ثنائية أو متعددة الأطراف، ذات مصالح كثيرة متبادلة فى جميع المجالات، وتستثمر فى ذلك بشكل يتلاءم مع معطيات النظام العالمى الذى يمر بتغيرات قد تكون مؤثرة على العالم أجمع.