رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

همس الشعوب عن «تدين الشباب والكبار» فى الستينيات

بقيت أزمة الخلط بين الاشتراكية والماركسية وموقف كل مفهوم منهما من الدين قائمة منذ قرارات يوليو ١٩٦١، ومثّل الاتحاد الاشتراكى- وريث الاتحاد القومى- مسرحًا ظهرت على خشبته تجليات هذه الأزمة، فوجد خصوم عبدالناصر مساحة شعبوية جيدة للنيل من الرئيس، عبر التشكيك فى موقفه من الدين، عندما تبنى تجربة التحول إلى المجتمع الاشتراكى، وأصدر قرارات التأميم، وفى المقابل نشط أنصاره فى الدفاع عن وجهة النظر التى تذهب إلى أن التبنى الاشتراكى لا يعنى نفى الدين من الحياة، أو اتخاذ موقف منه يتناقض مع قيم العقيدة، بل إن الاشتراكية مرآة عاكسة لقيم الإسلام الداعية إلى العدالة الاجتماعية، ووظف أنصار الرئيس فى هذا السياق عددًا من الأدوات، التى أشرنا إلى بعضها فيما سبق، مثل الكتب والكتابات الصحفية، والراديو وذلك عبر إذاعة القرآن الكريم، بالإضافة إلى البرامج الدينية فى التليفزيون، وأبرزها برنامج «نور على نور» الذى كان يقدمه أحمد فراج.

المطالع على سبيل المثال للجزء الثانى من السيرة الذاتية للدكتور خليل حسن خليل يجد حوارًا مثيرًا وقع بين المؤلف والسيد زكريا محيى الدين، نائب رئيس الجمهورية، فى ذلك الوقت. وزكريا محيى الدين واحد من الضباط الأحرار، وكان معروفًا بتوجهاته البرجوازية، بحكم الانتماء العائلى، وتحفظه على إجراءات التحول الاشتراكى، أما خليل حسن خليل فكان أمين الاتحاد الاشتراكى بدائرة مصر الجديدة، وهى دائرة الرئيس عبدالناصر، ومن أشد المؤمنين بالاشتراكية، والداعين إلى تفكيك مجتمع «الوسية»، فى ظل تجربته المريرة فى العمل فى وسايا الخواجات الأجانب قبل الثورة، وكان من بين المحاضرين فى معسكرات منظمة الشباب.

يحكى «خليل» أن نائب رئيس الجمهورية استدعاه بعد محاضرة له فى أحد معسكرات الشباب بمرسى مطروح، وأخبره بأن تقريرًا على مكتب الرئيس يقول إنه يُدرِّس الماركسية فى معسكرات الشباب، ورد عليه «خليل» بالنفى، وأكد أنه وبعض المحاضرين استعانوا ببعض مبادئ الاشتراكية العلمية من أجل إثراء تجربتنا الاشتراكية التى تعانى من الفقر الفكرى، نقل «محيى الدين» إليه أن التقرير وصل الرئيس عبر أحد أعضاء مجلس الأمة، وأنه غضب لذلك غضبًا شديدًا، بعدها تم استبعاد خليل حسن خليل من المشاركة فى هذه المحاضرات، وتم القبض عليه. 

تؤشر هذه الواقعة إلى أن عبدالناصر كان يفرق بين الاشتراكية وما تشتمل عليه من مبادئ للعدل الاجتماعى وتذويب الفروق بين الطبقات، والماركسية التى لا يتوانى المؤمنون بها عن ترديد عبارة أن «الدين أفيون الشعوب»، وأى معلومة كانت تصله بأن الطرح المقدم لتجربته الاشتراكية يجعلها قريبة من الماركسية قوبل برفض كامل من جانبه، كما أن توظيف عبدالناصر لنائبه زكريا محيى الدين المعروف بتوجهاته البرجوازية فى معسكرات التثقيف بمنظمات الشباب يمنحنا مؤشرًا جديدًا على أن عبدالناصر كان حريصًا على توظيف الاشتراكية كمجرد غطاء فكرى أو مذهبى للإجراءات التى اتخذها بتأميم المصانع والمشروعات التى وضع يده عليها، لصالح الدولة أو الشعب، كما كان يتردد حينذاك.

ومن المثير أن إشكالية علاقة الاشتراكية بالدين كانت حاضرة أيضًا فى اعترافات سيد قطب فى قضية تنظيم ١٩٦٥، إذ يحكى فيها أن أحد أعضاء الإخوان أبلغه أن السيد زكريا محيى الدين تكلم مع بعض الإخوان فى دخول الاتحاد الاشتراكى للوقوف فى وجه التيار الشيوعى، واستطرد قائلًا إنه علم أن السيد زكريا محيى الدين زار معسكر قادة الشباب، الذى كان مقامًا فى حلوان لعدة أسابيع، على إثر ما حدث فيه من تذمر من الشباب بسبب أن معظم المحاضرات فيه ومعظم المحاضرين كانوا يتجهون اتجاهًا شيوعيًا، ويبثون الأفكار الماركسية تحت ستار الاشتراكية، وبعضها يمس العقيدة الإسلامية بطريق غير مباشر، وأن زكريا محيى الدين كان حريصًا على التأكيد أن الدولة ليست شيوعية، واتفق مع الدكتور أحمد كمال أبوالمجد للاتفاق معه على صيغة لتمثيل الفكر الإسلامى داخل الاتحاد الاشتراكى.

كان موضوع الخلط ساخنًا على أعلى المستويات، والواضح أن نائب الرئيس زكريا محيى الدين كان حريصًا على تبنى فكرة أن الاشتراكية ليست أكثر من مظلة فكرية للتأميم، وأن الدولة ليست شيوعية، سواء كان مدفوعًا فى ذلك بقناعاته الشخصية، أو بتنفيذ توجهات الرئيس عبدالناصر أو بكليهما. وليس من المستبعد أن تكون فكرة دمج عناصر إخوانية داخل الاتحاد الاشتراكى قد طرحت فى ذلك الوقت، خصوصًا بعد أن اتخذ جمال عبدالناصر عدة قرارات بالإفراج عن كوادرهم، ولكن تم التحفظ عليها خوفًا من أى صدامات متوقعة بين شباب المعسكرات، أو الوعى بأن وجود تمثيل إسلامى داخل الاتحاد الاشتراكى يجب ألا يرتكن بالضرورة إلى عناصر من الإخوان، لأن ثمة أصوات عديدة أخرى يمكن أن تلعب هذا الدور.

على المستوى الشعبى كانت الشائعات تتواتر عما يحدث فى معسكرات منظمات الشباب، فقد أخذ الإخوان وأنصارهم وأيضًا بعض المواطنين ذوى الطابع المحافظ فى الحديث عن أن الاختلاط بين الشباب والفتيات على أشده داخل معسكرات الشباب، وأطلقوا العنان لخيالهم فى نسج الحكايات التى يمكن أن تترتب على ذلك، بالإضافة إلى الكلام عن أن المحاضرات التى تلقى على الشباب فيها، تشتمل على أفكار معاكسة للإسلام، وأن الدولة تريد أن تجعل من الاشتراكية دينًا بديلًا للإسلام، وتجعل من ماركس نبيًا مرسلًا، وغير ذلك من شائعات انطوت على قدر كبير من المبالغة وبعض الحقائق الموجودة على الأرض.

كان المهاجمون لمعسكرات الشباب وللأفكار المتنافية مع الإسلام، التى زعموا أنها تروج بها، يجدون هجومًا معاكسًا من المعسكر المضاد، أساسه الاتهام باحتكار الإسلام والانتماء إلى جماعة الإخوان، التى ترى أنها وحدها الجماعة المسلمة، وقد ظهر ذلك أيضًا فى اعترافات سيد قطب التى صدرت فى كتاب بعنوان «لماذا أعدمونى»، حين أكد أنه سمع عدة مرات من يقول: وهل أنتم وحدكم المسلمون؟. ألا يكفيكم المؤتمر الإسلامى وبرنامج نور على نور والمشاهد التى تقام فيها الصلاة والناس يذهبون إلى الحج؟. ويجيب سيد قطب عن السؤال قائلاً: يجب أن أقرر أن الإسلام أكبر من هذا كله. إنه نظام حياة متكاملة وإنه لا يقوم إلا بتربية وتكوين الأفراد، وإلا بتحكيم شريعة الله فى حياة الناس بعد تربيتهم تربية إسلامية.

ويعطيك هذا الطرح مؤشرًا إلى أن السلطة فى عصر عبدالناصر نجحت فى تقديم خطاب دينى داعم لتوجهاتها والسياسات التى انتهجتها والقرارات التى أصدرتها عبر توظيف منظمة المؤتمر الإسلامى وإذاعة القرآن الكريم والبرامج الدينية فى التليفويون، لكنها لم تنجح بحال فى زحزحة الخطاب الإخوانى أو الخطاب الدينى المحافظ عن المفاهيم التى كان يتعيش عليها.