رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة الكتاب الورقي

من أجمل الفعاليات التي احتفلت بها جمهورية مصر العربية في الفترة الأخيرة، معرض القاهرة الدولي للكتاب، فرغم أن هذا الحدث سنوي، إلا أن هذا العام كان مُميزًا للغاية فلقد كانت جميع الفعاليات إيجابية بشدة، ورغم جائحة كورونا العالمية، إلا أن الإقبال كان كبيرًا على المعرض، لا سيما وأن جميع التدابير الاحترازية كانت في مُنتهى الدقة، ومن أجمل التغييرات الإيجابية التي حدثت في المعرض الاهتمام بالطفل، حيث إنه أصبح لنشاطات الطفل والكتب التي تُخاطبه مبنى كامل خاص به، وهذا وإن كان يدل على شيء، فإنما يدل على اهتمام الدولة بالنشء الجديد، ورغبتها في تنشئته على أسس ثقافية في المقام الأول، وجذب انتباهه للقراءة الورقية، حتى لا يقع فريسة في براثن التكنولوجيا البحتة، والقراءات الإلكترونية. فالمعرض يُعتبر تحديًا حقيقيًا للسوشيال ميديا التي أصبحت مُسيطرة تمامًا على عُقول الجميع بدءًا من الشباب والمُراهقين، مُرورًا بجميع الفئات العُمرية التي بدأت تنساق تدريجيًا لهُوة التكنولوجيا، وانتهاءً بالأطفال الذين لو أصبحوا مُدمنين للسوشيال ميديا، فمما لا شك فيه أنهم سيكونون ضحايا للاستقطاب الفكري في مرحلة عُمرية مُعينة، خاصة وأن مصر أصبحت مُستهدفة فكريًا، بهدف إقصاء شبابها ونشئها عن هويتهم المصرية.

ولا ننسى أن عُنوان المعرض هذا العام كان "الهوية المصرية"، والتي من خلاله تم طرح جذورها وأبعادها من جميع النواحي، سواء الفكرية، والأدبية، والثقافية، والفنية، وكذلك من النواحي الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وأيضًا الرياضية والشعبية. ولا خلاف على أن هذا الطرح أتاح الفرصة لمُناقشة العديد من القضايا التي تهم فئات الشباب بأعمارهم المُختلفة، خاصة وأنهم بحكم انسياقهم الشديد للسوشيال ميديا بدأوا يبتعدون عن هويتهم المصرية وعُروبتهم، بسبب استيراد الأفكار الغربية التي تقتلعهم من جُذورهم تدريجيًا.

والحقيقة أن هناك جوانب أخرى كانت في غاية الإيجابية في مُناقشتها في المعرض، مثل تكريم شخصية لها تاريخها الأدبي والفكري والثقافي، وهو الأديب والكاتب الكبير الراحل "يحيى حقّي" باعتباره شخصية المعرض هذا العام، وتجسيد شخصيته عبر تقنية "الهُولوجرام". فمجرد طرح فكر أحد أعلام الأدب ورواد الثقافة، وعرض أعماله يتيح الفرصة للأجيال الحالية للعودة إلى رُموزهم وتراثهم الأدبي، الذي يفتقدونه بسبب انشغالهم بمواقع التواصل الاجتماعي التي لا تعبأ سوى بالمنصات، وطرح الأفكار الغربية، والأهم أن تلك التكريمات دليل على اهتمام الدولة برموز القوى الناعمة، واعترافها بمدى تأثير تلك القوى على تشكيل وجدان وفكر الأجيال، وترسيخ قيمهم الإنسانية.

علاوة على مجموعة الندوات التي ناقشت العديد من القضايا الحيوية التي تهم المجتمع المصري والعالمي على السواء، وقد لاقت تلك الندوات قبولًا كبيرًا من زُوار المعرض، وكانت حلبة لمُناقشات كبيرة لعرض كل الآراء ووجهات النظر المتباينة، وطرح شتى الأفكار ومُناقشتها وتحليلها، ولا خلاف على أن هذا الأمر فيه إحياء لروح الصالونات الثقافية.

ولم يتجاهل المعرض التطور التكنولوجي السريع، لذا كان هناك اهتمام بمشروع الكتاب الرقمي، وكانت موسوعة مصر القديمة لعالم الآثار الراحل الدكتور"سليم حسن" هي التي يُمكن تحميلها عبر منصة المعرض الرقمية خلال فترة المعرض.

وأيضًا كان هناك العديد من المُبادرات في المعرض، وكانت أهم مبادرة "ثقافتك كتاب"، وهي مُبادرة وزارة الثقافة والتي لاقت رواجًا ونجاحًا كبيرًا منذ إطلاقها في العام الماضي، والتي تستهدف جذب القراء لاقتناء الكتب الورقية مرة أخرى، وذلك بإتاحة الكتب بأسعار رمزية، وفي هذا تحدي للكتب الإلكترونية من أجل استعادة القارئ مرة أخرى.

وأخيرًا، فمهما زادت وتوسعت التكنولوجيا، ومهما سيطرت الحياة الرقمية، ومهما تزايدت المنصات، وانتشرت مواقع التواصل الاجتماعي، سيظل الكتاب الورقي هو رمز الثقافة في العالم كله، ورائد العلم في كل مناحي الحياة، ومعرض الكتاب الدولي والذي صُنف على أنه ثاني أكبر معرض دولي للكتاب بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب يسعى لإعادة الكتاب الورقي إلى الحياة الثقافية، واستعادة القارئ للقراءة الورقية.