رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصفور من مصر ومشاريع لم تكتمل


غادرتنا قامة فكرية وأدبية كبيرة، إذ فجعنا صباح يوم الجمعة بنبأ رحيل مفكر مصري كبير بقدر د. جابر عصفور، وللرجل سجايا كثيرة، وأفضال عظيمة على ساحة الأدب والثقافة في مصر، أبدع أحبابه وتلاميذه في رصدها منذ أعلن نبأ الرحيل، أذكر أنني كتبت قبل أشهر قليلة في الاحتفال باليوم العالمي للرواية، مشيدًا برؤيته المبكرة التي بشّرت بزمن الرواية في كتاب حمل ذات الاسم، وهو الكتاب الذي كان محورًا لجدال كبير بين مريدي الشعر وعشاق الرواية، لكن قراءة الرجل المبكرة حسمت المعركة لصالح الرواية.
وبعد كتابتي المقال المذكور بأيام زارني في مكتبي الشاعر الكبير محمد الشحات وذكرنا الدكتور عصفور بالخير، وفاجأني الشحات باتصال مباشر مع الرجل عرّفه بي وذكر له أنني صاحب مقال "صدق عصفور"، فشكر الرجل رؤيتي وكلماتي التي منحته بعض حقه دون مبالغة، واستثمرت الفرصة بإيعاز من صديقي الشحات إذ طلبت منه أن يكون لنا معه حديث يومي نذيعه في رمضان المقبل حول بعض ما حملته كتبه من رؤى وأفكار، قبل الرجل العرض، وضرب موعدًا لاتصال نضع فيه خطة العمل، ونبدأ التسجيل مبكرًا، وفي الموعد المحدد عاودت الاتصال دون رد فطلبت تدخل صديقنا المشترك لكننا عرفنا أن ظرفًا صحيًا طارئًا قد يمنعه من إنفاذ وعده في الفترة الحالية.
قلت لنفسي ما من مشكلة في تأجيل اللقاء الذي ستتبعه لقاءات أخرى حتى نخرج ببرنامج متكامل عماده الحوار الفكري الراقي، لكن الأجل كان أسبق، غير أن هذه لم تكن المرة الأولى للتواصل مع الرجل، فأنا أذكر أن حوارًا طويلًا كان لي شرف إجرائه معه، وأذكر أنني حين ذهبت إليه في الموعد المحدد كاد أن يعتذر لارتباطه بحضور افتتاح عرض مسرحي في المسرح القومي من بطولة سيدة المسرح سميحة أيوب.
طلب الرجل تأجيل موعدنا، ولكنه وبأدبه الجم حين قرأ امتعاضًا بدا على وجهي استدرك الأمر، واقترح عليّ أن أصحبه في سيارته لنجري الحوار في المسافة من مكتبه بالمجلس الأعلى للثقافة إلى حيث المسرح القومي بالعتبة، ولحسن حظي طالت المسافة- بحكم الازدحام المروري- فأجريت مع الرجل حوارًا فكريًا راقيًا.
وحين تولى «عصفور» وزارة الثقافة في الولاية الثانية له التي انتهت في فبراير 2015، فوجئت بترشيحي للانتقال للعمل معه- ندبًا من ماسبيرو- كواحد من الكوادر الشبابية التي قيل له إنها يمكن أن تضيف للعمل بالثقافة، تحمست لتلبية دعوته باللقاء لترتيب الأمر، ليس من أجل المنصب أو القرب من وزير، ولكن حماسي كان لأن ترشيحي جاء من أستاذتي الإعلامية الكبيرة أمينة صبري، فكانت تلك شهادة جديدة لي من قيمة إعلامية متميزة، وفرصة أقترب بها من قيمة فكرية قرأت لها وتابعتها قبل عقود، ولكنني حين ذهبت إليه في مقر الوزارة بالزمالك، فوجئت بأنه غادر لارتباطه بموعد سياسي.
ثم حدث أن استشرت أحد قيادات الثقافة حينها فنصحني الرجل- سامحه الله- بألا أترك عملي إلى وزارة أخرى ليست لها ميزات مالية تدعوني للمغامرة! وحسمت الأمر حين أوعز لي الصديق بأنني سأكون محسوبًا على الرجل الذي يمكن أن يترك الوزارة في أي وقت، وحينها سأكون قد غامرت بمستقبلي المهني في مقر عملي الأصلي دون أن أحقق إنجازًا مهنيًا مفيدًا.
ورغم عدم اكتمال مشروع العمل تحت رئاسة الرجل، فإنه ظل بالنسبة لي واحدًا من كبار المفكرين العرب المعاصرين، فهو أحد دعاة الاستنارة والمبشرين بها، حيث كتب في هذا المجال: "هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، محنة التنوير، نقد ثقافة التخلف"، ورغم أنه هو الذي كتب مبشرًا بزمن الرواية، فإنه كتب أيضًا "في محبة الشعر".
وبعيدًا عن المنجز الفكري الذي خلّفه لنا الرجل متمثلًا في عدد غير قليل من الكتب ومئات المقالات، تبقى آراؤه رمزًا للتجديد الفكري الذي حرّك مياهًا راكدة، ومثّل عصفور بهذه الأفكار نموذجًا للاستنارة، فقد كان الرجل نصيرًا للحرية بمفهومها الواسع، وداعمًا للمرأة، ومبدعًا حقيقيًا، ومترجمًا كبيرًا، ومسئولًا متحررًا من قواعد الروتين المعوقة، وقبل هذا وبعده هو إحدى منارات القوة الناعمة التي تباهي بها مصر شقيقاتها، وكان أن أحسنت المؤسسة الثقافية المصرية حين منحت الرجل قبل عامين جائزة النيل في الآداب- وهي الجائزة الأكبر- ليكون هو التكريم الأكبر والأخير من وطنه تقديرًا لما قدم من فكر وتنوير على مدى عمره.