رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رفعت السعيد يكتب: كيف صنع شكرى مصطفى كل هذا الإرهاب؟ «2»

رفعت السعيد
رفعت السعيد

الخلية تتكون من مجموعات صغيرة تضم 6 أفراد.. وتدريب الأعضاء بدنيًا وعسكريًا لحماية أنفسهم من مطاردات الأمن

وضع مخطط بناء التنظيم وهو داخل السجن واعتمد على تكوين الخلايا بشكل هرمى

وضع نظامًا صارمًا لعقاب المخطئين من الأعضاء والعضوات يصل إلى حد الجلد

نقل عن الشيوعيين فكرة الأسماء السرية والحركية للأعضاء وأسماها «كنية»

أمر بضرب الأعضاء السابقين الممتنعين عن سداد ما اقترضوه من أموال الجماعة

اعترافات أعوانه: هو الأمير وسلطته واسعة.. عصبى المزاج ولا يمكن محاسبته أو مناقشته فى أمر

لن تقدر على مواجهة الثعابين وهزيمتها إلا بالدخول إلى أعمق نقطة فى جحورها.. هناك ستعرف حركاتها.. طرق خداعها.. كيف حتى أن بعضها يتظاهر بالموت المحقق، وهو ينتظر فرصة سانحة للقضاء عليك.. حتى إن أصابتك لدغاتها، لن تُشفى إلا بمصل يُستخرج من سمومها.

حقائق آمن بها المفكر الكبير الراحل رفعت السعيد، رئيس حزب «التجمع» السابق، من خلال مؤلفاته العديدة التى شَرحَ من خلالها تنظيمات «المتأسلمين» بمختلف أنواعها، سواء ما تُسمى «تيارات الإسلام السياسى»، أو الحركات الجهادية.

من بين هذه المؤلفات كتاب «المتأسلمون .. الآتون من عباءة الإخوان»، الذى استعرض «رفعت» خلال أحد فصوله قصة شكرى مصطفى، مؤسس ما عرف باسم تنظيم أو جماعة «التكفير والهجرة»، بداية من أفكاره التى تأسست داخل السجن، مرورًا بتأسيس التنظيم وانتشاره فى الصعيد والجامعات، وصولًا إلى ما يمكن اعتباره ذروة نشاطاته المتمثلة فى اختطاف واغتيال الشيخ محمد حسين الذهبى، وزير الأوقاف، فى الثالث من يوليو ١٩٧٧، وهو ما ننشره فى السطور التالية، على مدار أكثر من حلقة.

تقول دراسة أعدها البنك الدولى عن مصر السبعينيات، وصدرت عام ١٩٨٠، أن نسبة الأسر التى تعيش تحت خط الفقر المدقع تبلغ ٤٥٪ من إجمالى الأسر المصرية، وأن النسبة ترتفع فى الصعيد إلى ٥٢٪، حيث تمركزت هذه الجماعات، وأن نصيب أغنى ٥٪ من السكان من الدخل القومى قد ارتفع من ٧٪ إلى ٢٢٪، بينما انخفض نصيب أفقر ٢٠٪ من السكان، من ١٥٪ من الدخل القومى إلى ٧٪.

وفى هذا الوقت الذى كان المجتمع يقوم بتهميش دور فئات عديدة، ونبذهم ويدفعهم دفعًا إلى الاغتراب عنه، أتى شكرى مصطفى ليحتضن المنتمين إليه، وليقوم بخلق نواة أو نموذج عملى للمجتمع الذى ينشده، أو لنقل أنه أقام دويلة صغيرة على مقاسه، ومقاس أفكاره، فمنح أعضاءه حياة جديدة، وقدم لهم كل ما يحتاجون من زواج وطلاق وسكن وتربية وتعليم «وفق رؤيته هو»، وكان قادرًا على أن يكون البديل عن مجتمع يلفظهم ولا يعتنى بمصائرهم.

وهكذا، وعن رضاء تام وبحماس شديد، كان أعضاء الجماعة يبايعونه، معلنين «نبايعك على السمع والطاعة فى المنشط والمكره، وفى عسرنا ويسرنا، وعلى أثره علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفرًا بواحًا لنا فيه من الله برهان»، وكان الأعضاء يقدرونه ويطيعونه ويثبتون دومًا ولاءهم له، حتى وهم تحت التحقيق.

المتهم مجدى صابر يقول عنه فى التحقيق «إنه رجل نزيه ومؤمن»، ويقول إسلام محمد عاطف للمحقق «إن لشكرى مصطفى شخصية متكاملة، فهو صالح وتقى، وطلق اللسان وله الفضل فى إفهامى مبادئ الجماعة»، أما المتهم صفوت حسن الزينى فيقول فى زهو أمام المحقق، إن «فكره مستمد من القرآن والسنة والتأمل مع النفس والحوار مع شكرى مصطفى».

يقول منتصر الزيات «وكانت أبحاث شكرى مصطفى وحده هى التى تدرس لأعضاء الجماعة، ولا يدرس لهم أى شىء آخر، وهو لا يصمد أمام العلم الصحيح، لذلك عندما كانوا يلتقون علماء ليناظروهم، تتهاوى حججه بسرعة، وهنا أصبح منهج رفض التلقى من الآخر. ووضع حاجزًا حول جماعته، وقال إنه لا يقبل علماء السلطة»، بل إن الجماعة كانت تلجأ إلى تصفية المخالفين حتى من داخل التيار الإسلامى، ويقولون لا تجادل المخالفين، حتى إن الأخ حسن الهلاوى ناقش شكرى مصطفى نفسه وبعض كبار أتباعه وأقام عليهم الحجة، وكان قد سجل هذه المناظرات على شرائط «كاسيت» فذهبوا إلى بيته فى الطالبية وحاولوا قتله، وفعلًا ضربوه ضربًا مبرحًا لولا أن تداركته عناية الله، وكان حسن الهلاوى أحد قادة الحركة الإسلامية فى ذلك الوقت.

منتصر الزيات 

ويكتب عبدالرحمن أبوالخير فى مقدمة كتابه «أما بعد، فإن الأخ شكرى مصطفى له فى النفس محبة لا يرتقى لمثلها سوى محبة الوالد، وشفقته على ولده، وله فى حياتى ذكريات بدأت منذ عام ١٣٩٠ هـ (١٩٧٠) بمعتقل طرة السياسى فى الحقبة الختامية لمحنة الإخوان المسلمين الكبرى».

وكان طبيعيًا بعد ذلك أن يمتلك شكرى مصطفى نفوذًا كبيرًا على الجماعة، وكان هو الذى يختار أمراء المجموعات فى المحافظات والمدن والأحياء، ويقول الأعضاء المتهمون أمام المحقق ودون غضاضة «سلطة الأمير واسعة ولا يمكن محاسبته أو مناقشته فى أمر من الأمور التى يقررها»، هكذا قال المتهم عبدالسلام مصطفى محمد عيسى، أما المتهم أحمد محمد عرفة فقد قال «كان معيار الأداء مرتبطًا بمدى القرب أو البعد الشخصى من شكرى مصطفى».

وكان الأمير «شكرى مصطفى» هو المسيطر على مالية الجماعة ومواردها التى كانت تأتى فى أغلبها من أعضاء الجماعة الذين سافروا ليعملوا فى الدول البترولية بأمر من الأمير، وكان يقوم بتوزيع المالية على أمراء المحافظات محددًا بنود الصرف».

وخصص شكرى مصطفى مبالغ من ميزانية الجماعة لمساعدة الأعضاء غير القادرين خاصة لاحتياجاتهم الطارئة كالزواج.

كما أنه كان يقرض بعض أعضاء الجماعة فى حالة حاجتهم للاقتراض بما يوحى أنه كان يمتلك دخلاً كبيرًا، فهل أتى ذلك كله من أعضاء يعملون بالخارج؟ هذا مجرد سؤال. يقول المتهم محمد الأمين عبدالفتاح فى أقواله إن الاعتداء على بعض المنشقين من الجماعة كان بسبب أنهم لم يسددوا ما اقترضوه من أموال الجماعة.

وقد عاش الأعضاء ومارسوا حياتهم اليومية فى مجموعات تشارك كل منها فى إحدى شقق الجماعة، بما شكل نوعًا من الهجرة الداخلية، وأسهم فى خلق نسق مشترك من الحياة يختلف بشكل جذرى عن نمط الحياة السائد.

وكنموذج للإنغلاق، ما أكده المتهم عبدالفتاح عمر مدكور، أمير منطقة إمبابة، من أن الجماعة كانت تلزم أعضاءها «بعدم الزواج من غير عضوات الجماعة لأننا لا يمكن أن نتأكد من إيمانهن خارجها».

كما أن شكرى مصطفى أقام نمطًا من تنشئة أبناء الأعضاء وفق مبادئ الجماعة كى ترتبط الأسرة بأكملها بالجماعة.

يقول المتهم إسلام محمد عاطف «١٥ سنة»، إن والدته منعته من الذهاب إلى المدرسة وبدأت فى تعليمه الأمور الدينية، كما أن والده كان يعمل مساعدًا فى القوات البحرية، وترك الخدمة بعد انضمامهم جميعًا للجماعة، وتتراوح أعمار الأطفال ما بين ١٥ عامًا وعام ونصف.

ووضع شكرى نظامًا صارمًا لعقاب المخطئين من الأعضاء والعضوات «وذلك بالضرب على القدمين عددًا محددًا من الضربات»، كما جاء فى أقوال المتهم عبدالرحمن محمد عبدالرحمن.

كما أن العضو المنشق كان يعتبر مفارقًا للجماعة المسلمة أى مرتد.

وكان تشدد الأمير «شكرى مصطفى» وطغيان شخصيته وعدوانيته على أعضاء الجماعة دافعًا بذاته لانشقاق بعض الأعضاء، لكن شكرى قاوم المنشقين بعنف شديد وصل إلى حد محاولة اغتيالهم.

وذلك كما حدث مع المنشق حسن الهلاوى، وأخيه خالد الهلاوى ورفعت أحمد أبودلال.

ويعترف عبدالله محمود عبدالرحمن، أمير مصر الجديدة، بأن المنشقين مرتدون وكفرة ويجب قتلهم.

ويمكن القول إنه كان هناك هدف خفى لهذه العدوانية الشديدة ضد المنشقين وهو إخافة الأعضاء، وترويعهم وتحذيرهم من أى خلاف مع الأمير، ويعترف المتهم كمال فراج يحيى بأنه «تلقى تدريبات عسكرية وبدنية، وأنه خشى من رفض الاشتراك فيها حتى لا يُتهم بالارتداد والكفر».

ولكن هناك سببًا أساسيًا وهو سبب فكرى.. فشكرى مصطفى يقول إن جماعته هى الجماعة المسلمة، وإن مفارقها مفارق للإسلام، ومن ثم فمن الطبيعى بل من الضرورى أن يعتبر المنشق عن الجماعة مرتدًا.

ولكى يكتمل الشكل الحاسم ويكتمل الاستعداد أقام شكرى مصطفى معسكرات للتدريب البدنى والعسكرى، واستخدام الأسلحة، وقد اعترف المتهم كمال فراج يحيى بأنه وغيره من الأعضاء تدربوا على الأسلحة النارية.

وقياسًا على رأيهم أنهم وحدهم «الجماعة المسلمة» فقد اعتبروا كما قلنا من قبل أن مفارقهم مفارق للإسلام، ولهذا وكما يروى عبدالرحمن أبوالخير فإن الأخ «أبومصعب» رفض طلبه بأن يصليا صلاة الغائب على روح كل من صالح سرية، وكارم الأناضولى عقب إعدامهما فى قضية الفنية العسكرية.. ودار بينهما الحوار التالى:

- عبدالرحمن أبوالخير: ألا يجوز أن نعترف بالأمر الواقع وهو تعدد الجماعات القائمة على التصور الصحيح؟

- أبومصعب: لا يجوز أن تتعدد الجماعة المسلمة.

- عبدالرحمن أبوالخير: هناك جماعات أخرى أسبق منا فى النشأة، مثل الجماعة الإسلامية فى شبه القارة الهندية، أو قد ينشأ بلاغ آخر فى أى قارة أخرى قدرًا على نفس التصور الذى أنزل الله على نبيه، ويحول بيننا وبينهم افتقادنا لإمكانية الاتصال وأدواته.

- أبومصعب: ولو.. لا يجوز أن تتعدد الجماعة المسلمة، فالحق واحد، والجماعة واحدة».

ولعله مما يكمل لنا- وإلى حد ما- صورة شكرى مصطفى أن نعود إلى ما قاله منتصر الزيات «كان شعره طويلاً تأسيًا بالرسول (ص) وكان حاد نظرة العين، وقد جاءت لى الفرصة وجلست مع بعض من كانوا يحققون معه من رجال النيابة العسكرية، وكانوا يتكلمون عنه بكل احترام، مؤكدين أنه كان ذكيًا جدًا ومتكلمًا. وحتى وقت اقتياده لحبل المشنقة كان يقول لهم إن الله سينقذنى، وهذا سمعته شخصيًا من الذى نفذ فيه حكم الإعدام، وهذا يوضح إلى أى مدى كانت تنعكس هذه الثقة فى أتباعه ومعاونيه خصوصًا إذا كانوا قليلى العلم».

وقد واجه التنظيم عدة مشكلات دفعته إلى تطوير أساليب عمله السرى.

ففى بدايات نشأة الجماعة ورغبة من شكرى مصطفى فى تطبيق منهج الهجرة ومفارقة المجتمع الكافر.. أمر بهجرة بعض الأعضاء للإقامة بأحد الكهوف فى جبال محافظة المنيا فى عام ١٩٧٣، وذلك للتفرغ للعبادة والعيش بطريقة بسيطة خالية من جميع مظاهر المدينة الحديثة الكافرة، الأمر الذى دفع للشك فى هويتهم.

ويقول المتهم إبراهيم عبدالمنعم أبوسنة «اصطدم بنا الأهالى واتهمونا بأننا يهود. وأبلغوا الأمن عنا»، وكانت هذه هى بداية تعرف الأمن على الجماعة، وقد توالت حملات صغيرة وهامشية على الجماعة حتى بلغت أربعًا فى الفترة حتى ١٩٧٦، الأمر الذى دفع الجماعة إلى تغيير أسلوب عملها التنظيمى.

فقد بدأت فى تدريب أعضائها بدنيًا وعسكريًا بهدف حمايتهم لأنفسهم من عدوان الأهلى ومطاردات الأمن، كما أن لقاء أعضاء الجماعة فى هذه الفترة بعدد من السجناء الشيوعيين قد مكنهم من التعرف على بعض أساليب العمل السرى مثل: إقامة تنظيم هرمى قاعدته مجموعات صغيرة العدد من خمسة أو ستة أعضاء، ولا يجوز تعرُّف أعضاء مجموعة على المجموعات الأخرى.. ولكل مجموعة أمير، ويعطى العضو الجديد البيعة لأمير مجموعته.

ثم يتصاعد الهرم التنظيمى لكل حى أمير، ولكل مدينة أمير، ثم أمير لكل منطقة، والأمير العام هو شكرى مصطفى، وله أربعة نواب، ونائبه الأول هو ماهر عبدالعزيز بكرى «ابن اخته».

وتجتمع المجموعة كل أسبوع أو كل أسبوعين على الأكثر.

كما نقل شكرى مصطفى عن الشيوعيين فكرة الأسماء السرية «الحركية» للأعضاء، وأسماها كنية.

وكانت الأسماء السرية لقيادات الجماعة كما يلى:

شكرى مصطفى- أبوسعد

ماهر بكرى- أبو عبدالله

محمد الأمين عبدالفتاح- أبوالغوث

أنور مأمور صقر- أبومصعب

مجدى صابر حيب- أبوالهيثم

هاشم بكرى- أبوحذيفة

صفوت الزينى- أبوطلحة

لقد عرف شكرى مصطفى كيف يبنى تنظيمه، وقبلها عرف كيف يبنى نفسه كزعيم لهذا التنظيم، ويحكى عبدالرحمن أبوالخير عن لقائه مع شكرى مصطفى لأول مرة بعد أن افترقا عقب الإفراج عنهما من معتقل مزرعة طرة، فيقول: «استمعت إلى الأخ شكرى وازددت يقينًا بأنه قد تغير، فلم يكن شكرى ذلك الفتى العصبى الذى لا يؤبه لشأنه كما شاهدته آخر مرة فى معتقل طرة السياسى.. لقد كان فى لقائى الجديد له شكرى الداعية المكتمل العناصر، لولا بقية من الهياج العصبى الذى يدفعه لتجريح محدثه إن لمس فيه أدنى ذرة من الخلاف فى الرأى، وشعرت بأن الله قد ساق هذا الداعية ليخرج المسلمون من كبوتهم وقد كان قرآنى الحجة ومسلم البلاغ».

وينعى على أعضاء الجماعة جميعًا أن الفرد منهم كان يكفيه «أن يلمس شبهة مناقشة فى رأيه أو فكره بقصد التيقن منه لكى يندفع إلى أخيه المناقش اندفاعه عدائية، وقد يصل الأمر إلى التجريح والغمز، أو غير ذلك من وسائل بناء الكراهية فى القلوب».

لكنه مع ذلك يدهش- وهو الإخوانى القديم الذى تربى على الأسس التنظيمية المتسمة بالصرامة- من مدى تماسك الجماعة والالتزام الصارم لأعضائها بتعليمات الأمير، فيقول عن تجربته معهم فى إحدى فترات السجن «لقد لمست عظمة الواقع العملى لأفراد الجماعة فى الضبط الإدارى والسمع والطاعة» فقد صدرت أوامر بعدم مخاطبة المرتدين والجماعات الأخرى فالتزم الجميع بهذا الأمر، ولاحظت على هذا الأمر أن عنصر الشعور بالرقابة «رقابة الأعضاء على بعضهم البعض» قد أدى إلى تنفيذ الأمر تمامًا، لقد التزم كل عضو بالطاعة من منطلق أنها طاعة لله ورسوله (ص) لكن عددًا قليلًا صدع بالطاعة لهذا الأمر إيثارًا للسلامة، ولكيلا يتهم بالعصيان والردة. وكنت أرى أن البعض يتخاطب مع الشيوعيين ولا يتخاطب مع الجماعات الأخرى، وكان تفسير ذلك أن هذا التخاطب مصلحى، ثم صدر أمر بعدم التخاطب مع الشيوعيين لكن جريمة التخاطب مع الشيوعيين كانت أهون من جريمة مخاطبة المأخوذين بسبب الإسلام، ولقد اقترحت إجراء حوار مع الفئات الأخرى، وخاصة مع رفاعى سرور، وفلول الشيخ صالح سرية، ومجموعة جماعة التكفير بالإسكندرية، لكن الاقتراح رفض على أساس أن هذا الحوار لن يثمر ثمرة ترتجى.

لكن عبدالرحمن أبوالخير ينقلنا بعد ذلك إلى مسألة بالغة الأهمية، إذ يقول «والحق أقول إن الأخ شكرى صاحب الجماعة المسلمة خاطب من بلغ من قمة الحق فجمعهم عليه، ولم أر خلال تأملى لتاريخ الحركة الإسلامية انطلاقة مثل انطلاقته، مما يجعلنى لا أجد كلمات لتقييم هذه الانطلاقة سوى أنه بقدر ما هو صانع لأعظم انطلاقة عملية فى تاريخ الحركة الإسلامية بقدر ما هو- فى نفس الوقت- صانع لأكبر مأساة فى تاريخ الحركة الإسلامية، بتطويع تجمعها لسياسة الجاهلية أملاً فى تحقيق مغنم للحركة، مقابل تحقيق مصلحة للجاهلية، وهو أسمى أسلوب العمل من خلال خطة العدو. فقد أسفرت النتيجة عمليًا عن توظيف الجماعة فى إجهاض الحركة الإسلامية ذاتها.. لقد بنى حركته على أساس مبدأ حركى فاسد هو العمل من خلال خطة العدو وهو مبدأ سياسى وظف الجماعة لمصلحة الطاغوت من حيث لا يدرى إمامها ولا أفرادها فلقى الجميع الضربة القاصمة».

ما قصة العمل من خلال خطة العدو هذه؟

إن للأمر تفصيلًا مهمًا.

وفى البداية نقرر أنها ليست فكرة جديدة فقد مارستها جماعة الإخوان المسلمين طوال تاريخها، وقادتها مرات إلى تحقيق نجاحات، ومرات أخرى إلى محن قاسية.

فحسن البنا أيد الملك فؤاد ثم ساند فاروق، وبايعه على كتاب الله وسنة رسوله، وأخرج جوالته فى مظاهرات صاخبة تهتف للملك «نهبك بيعتنا»، ويعلو هتافها «الله مع الملك».

حسن البنا 

الملك كان ضد الوفد صاحب الجماهيرية الواسعة والطاغية، والإخوان لهم مصلحة فى إضعاف الوفد كى يتخلصوا من أكبر منافس لهم وسط الجماهير، ومن هنا يتحالفون مع الملك ضد الوفد، وفى الوقت نفسه يحاولون وسرًا بناء جهازهم السرى، ويسلحونه مستفيدين من اطمئنان القصر الملكى لهم.

كذلك كان الأمر مع السادات، فالسادات كان يريد التخلص من الشيوعيين والناصريين الذين سيطروا لفترة على الجامعات، وأقلقوا مضاجع النظام، وعمر التلمسانى كان ضد اليسار، ويريد أن يحتل مكانه ومكانته فى الجامعات، كما أنه كان بحاجة إلى فسحة من الوقت لكى يعمل فيها بطمأنينة لإعادة بناء الجماعة، وكان بحاجة إلى السماح له بالمخاطبة والمحاضرة فى الجامعات وفى معسكرات الطلاب الصيفية ليبنى جسورًا تنظيمية مع جيل جديد من الشباب، بعد أن شاخت عضوية الجماعة فى السجون، لكن السادات لم يكن يطمئن للإخوان، فقام ببناء «الجماعات الإسلامية» فى الجامعات، وسمح لها بأن تنشط، وأن توسع من عضويتها ومنحها دعمًا ومالاً وسندًا بهدف مقاومة أى نفوذ للإخوان، وعمر التلمسانى يعرف ذلك لكنه يتغاضى عنه، فهو يستفيد من أسلمة المناخ العام فى الجامعات وفى المجتمع، فهذا المناخ العام يمنحه ظهيرًا يستند إليه فى تحركه العلنى والسرى، وهو فى الوقت نفسه يستفيد من خبرة الجماعة وتاريخها فى اقتناص عضوية من وعاء «الجماعات» أى ذات الوعاء الذى أقامه السادات.. ولا بأس من أن يتشدد أعضاء الجماعات ولا بأس من أن يمارسوا إرهابًا عنيفًا، فهنا تبرز جماعة الإخوان كالحل الأفضل، وتبرز كقوة معتدلة تكون قادرة على دعوة النظام للاستناد إليها، ومنحها المزيد من الدعم مقابل الاستناد إليها فى مواجهة المتطرفين.. وهكذا وكلما ازداد المتأسلمون تأسلمًا وإرهابًا وخروجًا عن صحيح الدين ازدادت جماعة الإخوان كسبًا، أو هكذا حاولوا.

عمر التلمساني 

إنها لعبة ذكية وساذجة فى آنٍ واحد، وقد أتقنتها جماعة الإخوان عبر تاريخها وطبقها عمر التلمسانى بدهاء، ونلاحظ أنه اعترف بها بوضوح عندما طالعنا فى فصل سابق اعتراف التلمسانى بأن وزير الداخلية قد طلب منه أن يعمل على مناقشة الطلاب المتطرفين لتهدئتهم، وكيف أنه وافق، ثم أضاف أنه كان يوافق الطلاب فى أفكارهم، ويختلف مع الحكومة فى أسلوب تعاملها معهم، لكنه مع ذلك حاول أن يخادع وزير الداخلية، بينما كان وزير الداخلية هو أيضًا يخادعه.

وحول شكرى مصطفى أن يفعلها لكنه لم يكن يمتلك لا خبرة ولا كفاءة ولا دهاء عمر التلمسانى وإخوانه.

ويحكى لنا عبدالرحمن أبوالخير قصة مراهنة شكرى مصطفى على العمل من خلال خطة العدو، فيقول إنه اجتمع مع عدد من أعضاء التنظيم، ومنهم أبوعبدالله «ماهر بكرى» حيث عرضوا عليه هذه الخطة، وحدثه بكرى قائلاً: «لقد عرضت الحكومة على الجماعة رغبتها فى أن تتعاون معها على أساس أن جماعتنا تصرف الشباب عن المناهج الانقلابية، وتدعو إلى الهجرة، وأن الحكومة بحاجة إلى جماعة إسلامية تستوعب الخاصة من الشباب، ثم إلى جماعة أخرى تستوعب العامة، ونحن إن شاء الله جماعة الخاصة، والإخوان المسلمين جماعة العامة. وقد قبلنا ذلك. وقد يقولون علينا عملاء فليقولوا، لكن المهم أن تحقق تقدم الجماعة وستصبح إن شاء الله الجماعة الوحيدة فى مصر».

ومضى ماهر بكرى قائلاً: «إنهم يتعاونون معنا مقابل صرف الشباب عن الانقلابات، فالحكومة قدمت هذا العرض وهى تعلم تمامًا أن منهجنا لا يتصادم مع خطتها حاليًا، فهو منهج هجرة، ويصرف الشباب عن التجمعات ذات المناهج الانقلابية شأن تنظيم الفنية العسكرية.

وقال: «إن الحكومة جادة فى عرضها، وقد عرضت علينا تعويضنا عما لحق بنا من أضرار فى الماضى كدعاية سيئة أو اعتقال، وطلبت منا رفع قضية ضد دور الصحف والأجهزة الأخرى التى هاجمتنا للحصول على التعويض المناسب، واتفقنا مع المحامى شوكت التونى لرفع القضايا، فالجماعة فى حاجة إلى المال».

ويرد عبدالرحمن أبوالخير «إن الطاغوت بذلك سوف يجرنا إلى الاحتكام إليه وهذا محرم شرعًا لقوله تعالى «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا».

ويرد عليه أبومصعب «أنور مأمون صقر»: أبدًا، ما وجه الحرمة فى ذلك إن رسول الله (ص) قد دخل فى جوار كافر، لقد دخل فى جوار مطعم بن عدى ليحميه من الكفار فى الطائف، ثم قال: واحد بيقول لك عندى لك حقوق تعالى خدها، أقول له لأ؟.

- أبوالخير: إننا بذلك سوف نستثمر، سوف يستثمرنا الطاغوت لمصلحته.

- أبوالغوث «محمد الأمين عبدالفتاح»: قبلنا أن نَستثمر قبل أن نُستثمر».

ونمضى مع هذه الحوارات الكاشفة، بل والفاضحة لكل أطرافها.. للسادات ونظامه وللإخوان ولشكرى مصطفى.

يقول أبوالخير «التقيت أبو عبدالله وبدأ يشرح لى أسلوبًا جديدًا لم يسبق أن سمعته أسماه «الحسابات الدقيقة للمصالح المشتركة بين الجماعة المسلمة والجاهلية»، وقال إذا كانت هناك عملية ما.. يمكن أن تقوم بها الجماعة بالاشتراك مع العدو بحيث تكسب الجماعة ٥٤٪ منها، ويكسب العدد ٤٦٪ منها، فإننا نؤديها لأنه دون ذلك لن تتقدم الجماعة خطوة واحدة.

ويرد عليه أبوالخير: ذلك حق ولكن العبرة بالطرف الذى يستخدم الآخر لمصلحته.. وأرى أن الجاهلية هى الغالبة، وبالتالى فإن بيدها خيوط التأثير فى اتجاهات المصلحة.

فيقول أبوعبدالله: أبدًا، إن الله تبارك وتعالى معنا وليس معهم، وبالتالى فإننا نملك المحافظة على تحقيق نسبة من المصلحة أكبر مما يحقق العدو.

ولأن هذا الموضوع كان الشغل الشاغل للجماعة فقد ناقشه شكرى مصطفى «أبوسعد» مع عبدالرحمن أبوالخير أيضًا وقال له: 

«أنا أقول للطاغوت أنا لا أشكل عقبة فى طريق خطتك فحجبى للنساء عن الجامعات والمدارس أقول به للنظام أنا هاريحك من مشاكل تعليمهن وانتقالاتهن. وهجرتى لا تشكل خطرًا انقلابيًا عليك، وأساهم بذلك فى تخفيف مشكلة الإسكان، وبترك الوظائف أريحك من المرتبات التى تُدفع لنا».

ويعلق عبدالرحمن أبوالخير تعليقًا مريرًا: «لقد كانت مصارحة أبى سعد (شكرى مصطفى) واضحة، أراد أن يحقق هدفه من خلال خطة الطاغوت، فاصطاده الطاغوت فى شباكه، وذلك جزاء مَن لم يعرف عمق الموقف الربانى للحركة الإسلامية».

وبقى من ذلك كله.. إن هذه المحاورات قد كشفت لنا وبجلاء، وأكدت وبوضوح ما كنا نحاول إثباته خلال مراحل هذه الكتابة.. وهو ذلك الحلف بين السادات والإخوان والذى أسماه شكرى مصطفى «خطة العمل مع الطاغوت من خلال تحقيق المصالح المشتركة».